لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فأما نسخ الكتاب بالسنة فلأن الآية دالة على أن السنة تبين جميع القرآن؛ لأن {مَا} من قوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} عامة, فلو كانت السنة ناسخة له تكن مبينة بل رافعة، وأما العكس فلأنه قد تقرر أن السنة مبينة للكتاب فلو جاز نسخها بالكتاب لكان مبينا لها؛ لأن النسخ بيان انتهاء الحكم وذلك دور فتلخص أن الآية دالة على الحكمين. ثم أجاب المصنف عن الأول بأنا لا نسلم أن النسخ منافٍ للبيان بل هو عينه, فإنه بيان انتهاء الحكم. وأجاب عن الثاني بقوله تعالى في صفة القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فإنه يقتضي أن يكون الكتاب بيانا للسنة كما أن قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} يقتضي أن تكون السنة مبينة للكتاب, فلما تعارضا سقط الاستدلال بهما، والأولى في الجواب أن يقال: الاستدلال بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} على الحكمين امتناع نسخ الكتاب بالسنة، وإن كان منافيا فلا يتجه الاستدلال على العكس. قال: "الثانية: لا ينسخ المتواتر بالآحاد؛ لأن القاطع لا يدفع بالظن قيل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] منسوخ بما روي أنه -عليه الصلاة والسلام "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع"1 قلنا: لا أجد للحال فلا نسخ". أقول: نسخ المتواتر بالآحاد جائز قطعا، واختلفوا في وقوعه على مذهبين، كذا صرح به الآمدي في الأحكام ومنتهى السول، وعبر بقوله: اتفقوا، وفي المحصول ومختصراته نحوه أيضا, فإنهم جزموا بالجواز وترددوا في الوقوع، وعبارة المصنف وابن الحاجب توهم أن الخلاف في الجواز. واستدل على المنع بأن المتواتر مقطوع به وخبر الواحد مظنون والقطعي لا يدفع بالظن, وهو إنما يستقيم ما فهمناه، ولذلك لم يذكره الإمام ولا مختصرو كلامه. نعم صرح ابن برهان في الوجيز بما أفهمه كلامهما فقال: وقال قوم: هو مستحيل من جهة العقل ثم استدل عليه بعين ما استدل به, فإما أن يكونا قد اطلعا على هذا ثم اختاراه وفيه بعد، وإما أن يحمل كلامهما على أنا لا نحكم بالنسخ عند التعارض، بل يعمل بالمتواتر وإن تقدم لقوته. ودليل المصنف ضعيف لوجهين أحدهما ما قاله ابن برهان: أن المقطوع به إنما هو أصل الحكم لا دوامه، والنسخ يرد على الثاني لا على الأول. الثاني: أنه لا يطرد لأن إخراج بعض أفراد العام بعد العمل به نسخ لا تخصيص كما تقرر ودلالة العام على أفراده ظنية، وإن كان مقطوعا به، والخاص بالعكس فتعادلا. واستدل الخصم بأن قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] إلى آخرها يقتضي حصر التحريم في المذكور في الآية, وقد نسخ ذلك بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وإذا ثبت نسخ الكتاب بالآحاد فنسخ السنة المتواترة به أولى، وأجاب المصنف