وما أشبه ذلك.
وعن تركيب الشجاعة مع العفة: إنكار الفواحش، والغيرة على الحرم.
وعن السخاء مع العفة: الإسعاف بالقوت، والإيثار على النفس، وما شاكل ذلك.
وجميع هذه التركيبات قد يذكرها الشعراء في أشعارهم، وسأذكر من جيد ما قالوه في ذلك صدراً إن شاء الله تعالى، إلا أني أبدأ قبل ذلك فأقول: إن كل واحدة من هذه الفضائل الأربع ذكرها، وسط بين طرفين وقد وصف شعراء مصيبون متقدمون قوماً بالإفراط في هذه الفضائل، حتى زال الوصف إلى الطرف المذموم، وليس ذلك منهم إلا كما قدمنا القول فيه في باب الغلو في الشعر من أن الذي يراد به إنما هو المبالغة والتمثيل لا حقيقة الشيء.
ومن الأخبار التي يحتاج إلى ذكرها في هذا الموضع وشرح الحال فيها، ليكون ذلك مثالاً يبنى الأمر عليه. ويعلم به ما يأتي من مثله. أن كثيراً أنشد عبد الملك بن مروان قوله فيه:
على ابنِ أبي العاصِي دِلاصٌ حَصينةٌ ... أجادَ الْمُسَدِّي سرْدَها وأذالها
يَؤودُ ضَعِيفَ القَوْمِ حَمْلُ قَتِيرهَا ويَسْتَطْلِعُ القَرْمُ الأشمُّ احْتِمَالَهَا
فقال له عبد الملك: قول الأعشى لقيس بن معدي كرب أحسن من قولك، حيث يقول له:
وإذا تَجِيء كتيبةٌ مَلْمُومَةٌ ... شَهْبَاءُ يَخْشَى الذائِدُونَ نِهالهَا
كُنْتَ المقَدَّمَ غَيْرَ لابِسِ جُنَّةٍ ... بالسَّيْفِ تَضْرِبُ مُعْلِماً أَبْطَالَهَا
فقال: يا أمير المؤمنين، وصفتك بالحزم والعزم، ووصف الأعشى صاحبه بالطيش والخرق.
والذي عندي في ذلك أن عبد الملك أصح نظراً من كثير. إلا أن يكون كثير غالط واعتذر بما يعتقد خلافه، لأنه قد تقدم من قولنا في أن المبالغة أحسن من الاقتصار على الأمر الأوسط ما فيه كفاية، والأعشى بالغ في وصف الشجاعة حيث جعل الشجاع شديد الإقدام بغير جنة، على أنه وإن كان لبس الجنة أولى بالحزم وأحق بالصواب، ففي وصف الأعشى دليل قوي على شدة شجاعة صاحبه، لا أن الصواب له ولا لغيره إلا لبس الجنة، وقول كثير يقصر عن الوصف.
فلنرجع إلى ذكر مدائح الشعراء المحسنين، ثم نأتي بعد