من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل، فإن الإطناب فيه طويل، وإنما أحيل على ما قيل:
أنت الذي وَقَفَ الثَّناءُ بسُوقِهِ ... وجَرَى النَّدَى بعُروقِهِ قبلَ الدَّمِ
عبد الجواد بن شعيب الخوانكي شاعرٌ متسع الباع، معتدل الطباع في الانطباع.
فهو ليس بالناسك البارد، ولا الفاتك المارد.
ولا بالمتعفر المتقشف، ولا بالخليع المتكشف.
يشوب الحصافة بالفصاحة، ويزين اللباقة باللياقة.
ويجمع بين الجد المقبول والهزل المطلوب، ويستشف عما يقر العيون ويسر القلوب.
وقد أوردت له ما محله الخلد، وإذا نقدته علمت أن قائله من نقد البلد.
فمن ذلك قوله:
وَيْلاهُ يهْجُرني عَمْداً بلا سَبَبِ ... وفي مَحَبَّتهِ الأمثالُ تُضْرَبُ بي
ليت الصَّبابةَ ما كانتْ ولا خُلِقتْ ... فإن آخرَها يُفْضي إلى العَطَبِ
شهراً ثلاثين يوماً لا أراكَ ولا ... عَيْنِي رأتْك فقلبي زائدُ الوَصَبِ
ولا تخُطُّ كتاباً منك تُخْبِرُنِي ... أعَنْ رِضىً كان هذا الصَّدُّ أم غَضَبِ
ولا يمُرُّ خيالٌ منك في حُلُمِي ... فأطْمئِنُّ وهذا غايةُ العَجَبِ
وكيف يسْرِي خَيالٌ والكَرَى مَنعتْ ... بَناتُ نَعْشٍ به في أعْيُنِ الشُّهُبِ
كأنه كان جِنِّيّاً يُسارِقُنِي ... فأحْرقَتْه فما أبْقتْ سِوَى اللَّهَبِ
وقوله:
سِرْبُ جِنَّانٍ في جِنَانٍ وبِي ... يمْشِي مع الغِزْلاَنِ في رَبْرَبِ
يرْتَعُ في النَّرْجِسِ أو يرْتَقِي ... حَبَّةَ قلبِي بَدَلَ الزَّرْنَبِ
تَرْفُل بالسُّنْدُسِ أعْطافُه ... أعْطافُ غُصْنِ الْبانةِ المُخْضَبِ
في صَنْعةِ السِّحْرِ لأجْفانِه ... أشْياءُ عن هاروتَ لم تُكْتَبِ
قد عقَد النَّوْمَ وغَلَّ الكَرَى ... مِنِّي ولا تسَلْ ما حَلَّ بي
حُلْوُ الْجَنَى مُرُّ الْجَفَا قُرْطُه ... عَرَّفنِي مَنْزِلة الكَوْكَبِ
وَرْدُ الرُّبَى يُقْطَفُ من خَدِّه ... والشُّهْدُ من مَعْسُولِه الأشْنَبِ
أسْكَرنِي منه عُذَيْبُ اللَّمَى ... لو لم يكنْ ذا بَارِقٍ خُلَّبِ
أطْمَعنِي في وَصْلِه مَرَّةً ... وقال يا أطْمَعُ من أشْعَبِ
قوله: والشهد مبتدأٌ خبره الجملة، فلا يرد أن القطف في العسل غير لغوي، على أنه يمكن فيه ارتكاب التجوز، فيستعمل فيه كما استعمل في قطف الزهر، وأصله من قطف الكرم.
ومن صنائعه قوله:
ومن عَجَبٍ سَفْكُ الجُفونِ دماءَنَا ... وعَهْدِيَ أن السيفَ يقطَعُ لا الغِمْدُ
وأعْجَبُ من هذا تُشَقُّ قلوبُنا ... ولا أوْضَحَتْ عَظْماً ولا خُدِشَ الجِلْدُ
وأعْجَبُ من هذيْن تَجْنِي تَعَمُّداً ... ويُقْضَى لها أن لا قِصاصَ ولا حَدُّ
وأعْجَبُ من تلك العجائبِ أنَّنِي ... بقْتلِيَ رَاضٍ وهْو يغضبُ من بَعْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن شِكايتِي ... وهل يملِكُ الشَّكْوَى من السَّيِّدِ العَبْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن ومَرَّةً ... يَصُدُّ فيدْعُوني لِطاعتهِ الصَّدُّ
وأعْجَبُ من أضْعافِها قَوْلُ عَاذِلِي ... تسَلَّ ألاَ لو كان في عَاذِلٍ رُشْدُ
وأعْجَبُ شيءٍ مُطْلَقاً أنه اجترَى ... ولم يَدْرِ مَن أهْوَى أزينبُ أم دَعْدُ
أما والذي أبكى وأضْحَك لم يكُنْ ... لِيُخْلَق لولا خَدُّه الآسُ والوَرْدُ
ومن شعره قوله من قصيدة، أولها:
يا رَبَّة الْخَلْخالِ والقُرْطِ ... والمِطْرفِ الموْشِيِّ والمِرْطِ
عَطْفاً فإنِّي لم أحِدْ يوماً ... عن حِفْظِ ذاك العهدِ والشَّرْطِ
قِفِي انْظُرِي ما حَلَّ بي إنِّي ... قد ضَرَب الأمْثالَ بي رَهْطِي
وغادةٍ بَيْضاءَ مِعْناقٍ ... قَوامُها كالأسْمَرِ الخَطِّي