فنحتُ على تلك الرُّبوعِ تشوقاً ... كما ناح من فقدِ الحميمِ حمامُ

أيا صاحبي نجواي يوم ترحَّلوا ... وحزن الفلا ما بيننا وأكامُ

نشدْتكما بالودِّ هل جاد بعدنا ... دِمشق بأجفاني القِراح غمامُ

وهل عذبات البانِ فيها موائسٌ ... وزهر الرُّبى هل أبرزته كِمامُ

وهل أعشب الرَّوض الدِّمشقيُّ غِبَّنا ... وهل هبَّ في الوادي السعيدِ بشامُ

وهل ربوة الأنس التي شاع ذكرها ... تجول بها الأنهارُ وهي جِمامُ

وهل شرف الأعلى مطلٌّ وقعره ... على المرجةِ الخضراءِ فيه كرامُ

وهل ظلُّ ذاك الدَّوحِ ضافٍ وغصنه ... وريقٌ وبدر الحيِّ فيه يقامُ

وهل ظبياتٌ في ضميرٍ سوانِحٌ ... وعين المها هل قادهنَّ زمامُ

ضمير: مصغر: قرية دمشق.

وهل أمويُّ العلمِ والدين جامعٌ ... شعائِره والذِّكر فيه يقامُ

وهل قاسيونٌ قلبه متفطِّرٌ ... وفيه الرجال الأربعون صِيامُ

ألا ليت شعري هل أعود لِجلِّقٍ ... وهل لي بوادي النيربين مقامُ

وهل أرِدنْ ماء الجزيرة راتِعاً ... بمقصفها والحظُّ فيهِ مرامُ

سلامٌ على تلك المغانِي وأهلِها ... وإن ريش لي من نأيهنَّ سِهامُ

لقد جمعت فيها محاسِن أصبحت ... لدرجي فخارِ الشامِ وهي خِتامُ

بلادٌ بها الحصباء درٌّ وتربها ... عبيرٌ وأنفاس الشَّمال مدامُ

وغرَّتِها أضحت بجبهة روضِها ... تضيء فخلخال الغدير لِزامُ

تنائيت عنها فالفؤاد مشتَّتٌ ... ووعر الفيافي بيننا ورَغامُ

لقد كدت أقضي من بعادي تشوُّقاً ... أليها وجسمي قد عراه سَقامُ

وله:

لهفي على زمنٍ قضَّيته جذِلاً ... مسربلاً ببرودِ العزِّ والنِعمِ

مضى كأن لم يكن ذاك الزَّمان أتى ... حتى كأني به في غفلةِ الحلمِ

ما أسأرتْ لي لياليه التي سلفت ... بلذَّةِ العيشِ إلا زفرة النَّدمِ

محمد بن يوسف الكريمي أقول فيه لا متأثِّماً، ولست من خجلٍ متلثِّماً: إنه أبرع من سبك لفظاً مع معنى، وأرقُّ من أراد أن يشعر فغنى. وهو من رقة العشرة، يكاد يدخل في القشرة. ومن خفة الروح، مع الذرِّ في الهواء يروح. ومضى عليه زمنٌ لا يعرف الصحو، ولا يفرق بين الإثبات والمحو.

وهو في قيد الرق، يجمع بين العود والزِق. هذا، وعهده يرف ماءه، ويشفُّ عن النضرة ماؤه. وتتألق غرَّته، وتشرق أسرَّته. والعيش كما يدريه، على ما يطيب يجريه. حتى فلَّ الدهر شبا شبيبته، ومحا من لوح الوجود محاسن جبهته. هناك ألجمه الشَّيب بلجامه، فنكَّب لا يلوي على كاسه وِجامِه. وقد وقفت بخطه على أشعارٍ له ألذَّ من ماء القراح، وأطيب من النسيم حفَّت به لذَّات الروح والراح.

فذكرت منها ما ينوب عن الريقين: الروض، والصَّبا، ويغني عن الرائقين: الرِّيق، والصَّهبا. فمن ذلك قوله من قصيدة، مستهلها:

في فؤادي من الخدودِ لهيبُ ... جنَّةٌ طاب لي بها التَّعذيبُ

صحوتي من هوى الحِسانِ خمارٌ ... وشبابٌ بلا تصابٍ مشيبُ

داوني باللِّحاظِ فالحبُّ فينا ... دار بلوى بها السَّقام طبيبُ

لفؤادي من لحظةِ السُّخطِ سهمٌ ... هي من قسمةِ الهوى لي نصيبُ

كلُّ قلبٍ له الصَّبابة داءٌ ... ألف الدَّاء فالحكيم رقيبُ

مِحنة الحبِّ عندنا دار بلوى ... فلها من قلوبِنا أيُّوبُ

هكذا حاكم الهوى فلديهِ ... من ذنوبٍ لنا تعدُّ القلوبُ

لو بدا للوجودِ يوسفُ حسنٍ ... ضمَّه من قلوبنا يعقوبُ

لا تلمني سداً فمدمن خمرِ ال ... حبِّ في ملَّةِ الهوى لا يتوبُ

في لِحاظِ الظباءِ آية سحرٍ ... قد تلاها على العقول الحبيبُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015