قال صفهُ فقلت صدر حسودٍ ... خالطته مكارم المحسودِ
ولابن مجير الأندلسي، وقد حضر مع عدوٍّ له، جاحد لما فعله معه من الخير، وأمامهما زجاجةٌ سوداء فيها خمر، فقال له الحسود المذكور: إن كنت شاعراً فقل في هذه. فقال ارتجالاً:
سأشكو إلى النُّدمان أمر زجاجةٍ ... تردَّت بثوبٍ حالك اللون أسحمِ
تصبُّ بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنحٍ من اللَّيل مظلمِ
وتجحد أنوار الحميَّا بلونها ... كقلب حسودٍ جاحدٍ يدَ منعمِ
وقد أحسن القاضي التنوخي، في تشبيه النار، حيث قال:
فاهتف بنارٍ إلى فحمٍ كأنَّهما ... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتَّفقا
وللأمير، وهو من بدائعه:
لو لم يكن راعها فكرٌ تصوَّرها ... من والهٍ وثنتها مقلة الأملِ
ما قابلت نصف بدرٍ بابن ليلته ... وألقت الزُّهرَ فوق الشَّمس من خجلِ
قلت: هذان البيتان درَّان أو وردتان.
ومن خمرياته التي تصير الزاهد ضجيع دسكرةٍ وحان، وتنوب عن لذَّة السَّماع ومطربات الألحان:
أدر المدامة يا نديمي ... حمراء كالخدِّ اللَّطيمِ
تسري بأرواح النَّهى ... كالبرءِ في الجسم السَّقيمِ
وأقم إذا جنَّ الدُّجى ... متردياً ظلَّ الكرومِ
فالجوُّ راق كأنَّما ... صقلته أنفاس النسيمِ
وتبدَّدت زهر النجو ... مِ تبدُّدَ العقد النَّظيمِ
قم هاتها واستجلِها ... من كفِّ ذي شجوٍ رخيمِ
بدرٍ يريك محاسناً ... يسبي بها عقل الحليمِ
إن ماسَ يزري بالقنا ... وإذا رنا فبكلِّ ريمِ
في روضةٍ نسجت بها ... أيدي الصَّبا حبر الجميمِ
الجميم: مجتمع من البهمى، أي النبت.
ضحكت بها الأزهار لم ... اأن بكى جفنُ الغيومِ
كم ليلةٍ قضَّيتها ... في ظلِّها الصَّافي الأديمِ
متذكِّراً عهد الدُّمى ... متناسياً ذكر الرسومِ
نشوان من خمر الصِّبا ... جذلان بالأنس المقيمِ
حيث الشَّبيبة غضَّةٌ ... والوقت مقتبل النَّعيمِ
قلت: وقد اشتهر له في المدامة والنديم، وما يسلي عن لطف الحديث وصفو القديم. مع أنه ما عاقر عقاراً، ولا وهب لمجلس راعٍ وقاراً.
هذا ما سمعته من فيه، ولم ينقل عنه، فيما أعلم، شيءٌ ينافيه.
ومما يستجاد له قوله:
منعتْك رؤية كاشحٍ ... من أن تَمُرَّ مسلِّما
إن تخشَ من نظرٍ إليَّ ... شِمِ الهلال تكرُّما
فلعلَّ لحظي يلتقي ... وهناً ولحظك في السَّما
أصله قول بعضهم:
إلى الطَّائر النَّسر انظري كلَّ ليلةٍ ... فإنِّي إليه بالعشيَّة ناظرُ
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجنُّ الضَّمائرُ
ولابن المعتز منه:
ألست أرى النَّجم الذي هو طالعٌ ... عليكِ فهذا للمحبِّين نافعُ
عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظها ... فيجتمعا إذ ليس في الأرضِ جامعُ
ولبعض شعراء الخريدة:
وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيتهِ ... لعلَّ طرف الذي أهواه ينظرهُ
ومن صنائعه قوله:
عدَّتُ المجد يراعٌ وحسام ... وثمار الشُّكر تجنيها الكرامُ
أعذب الأشياء في ممنوعها ... وبإعراض الدُّمى يحلو الغرامٌ
من يبت سهران في كسب العلا ... حرِّم الغمض عليه والمنامُ
قلت: هذه النبذة لم أر لها مثالاً، كلما قيد كلمتها الخطُّ سيَّرها اللفظ أمثالا: وله:
أغار إذا وصفْتُك من لساني ... ومن قلمي عليكَ ومن بناني
لئن منعتْك قومي عن حديثي ... فكم باتت تساجلك الأماني
وإن حجبوك عن نظري فإنِّي ... أراك بعين فكري من مكاني
وإن تكُ نارُ صدِّك لي تلظَّى ... فمنك أشمُّ رائحة الجنانِ