كأن العِيسَ كانتْ فوق جَفْنِي ... مُناخاتٍ فلما سِرْنَ سَالاَ

والمتنبي أخذه من قول بشار:

كأنَّ جُفُونِي كانت العِيسُ فَوْقَها ... فسارتْ وسالتْ بعدهنَّ المَدامِعُ

وما ضُربتْ تلك الخيامُ بعالِجٍ ... لقَصْدٍ سوَى أن لا يُصاحِبني العَقْلُ

وحَدَبٍ كأنَّ العِيسَ فيه إذا خَطتْ ... تُسابِق ظِلاً أو يُسابِقُها الظِّلُّ

سَئِمْنَ بنَا الأنْضاءُ حتى كأنَّنا ... حَيارَى دُجىً أو أرْضَنا معنا قَفْلُ

إذا عَرضتْ لي من بلادٍ مذلَّةٌ ... فأيْسَرُ شيءٍ عنديَ الوَخْدُ والرَّحْلُ

وليس اعْتِسافُ البِيدِ عن مَرْبَعِ الأذَى ... بذُلٍ ولكنَّ المُقامَ هو الذُّلُّ

ولا أنا ممَّن إن جهلتَ خِلالَه ... أقامتْ به القَاماتُ والأعْيُن النُّجْلُ

فكلُّ رياضٍ جِئْتُها ليَ مَرتَعٌ ... وكلُّ أُناس أكْرمُوني همُ الأهْلُ

ولي باعْتمادِ الأبْلجِ الوَجْهِ رَاشدٍ ... عن الشُّغْلِ في آثارِ هذا الورَى شُغْلُ

هُمامٌ رسَتْ للمجدِ في جَنْبِ عَزْمِه ... جِبالٌ جبالُ الأرضِ في جَنْبِها سَهْلُ

وليثٌ هَياجٌ ما عَرِينَ جُفونُه ... من الكُحْل إلاَّ والعَجاجُ لها كُحْلُ

يقوم مَقامَ الجيشِ إن غابَ جيْشُه ... ويخْلُف حدَّ النصلِ إن غُمِد النَّصْلُ

زكَتْ شرَفاً أعْراقُه وفُروعُه ... وطابتْ لنا منه الفضائلُ والفِعْلُ

إذا لم يكنْ فعلُ الكريمِ كاصْلِه ... كريماً فما تُغْنِي المَناسبُ والأصلُ

من النَّفَرِ الغُرِّ الذين تحالَفُوا ... مدَى الدهرِ لا يأتي ديارَهمُ البُخْلُ

كِرامٌ إذا رامُوا فِطامَ وَليدِهمْ ... عن الثَّدْيِ حطُّوا البُخْلَ فانْفَطم النَّجْلُ

ليوثٌ إذا صَالُوا غُيوثٌ إذا هَمَوْا ... بُحورٌ إذا جادُوا سيوفٌ إذا سُلُّوا

وإن خطَبوا مَجْداً فإن سيوفَهمْ ... مُهورٌ وأطرافُ القَنا لهمُ رْسْلُ

إذا قفَلُوا تَنْأَى العُلَى حيثما نأَوْا ... وإن نزَلُوا حلَّ الندَى أينما حَلُّوا

هذا معنى متداول، منه قول المتنبي:

الحسنُ يرحَلُ كلما رحَلُوا ... معهم وينزلُ حيثما نزَلُوا

تَوالتْ على كسْبِ الثناءِ طِباعُهم ... فأعْراضُهم حِرمٌ وأمْوالهم حِلُّ

أمَوْلايَ إن يَمْضُوا ففِيك سَما العُلَى ... وقامتْ قَناةُ الدِّين وانْتشر العَقْلُ

وإن يكُ قد أفْضَى الزمانُ بسالمٍ ... فإنك رَوْضُ الوَبْلِ إذْ ذهَب الوَبْلُ

هذا معنىً تلاعب به المتنبي وكرره، في تفضيل البعض على الكل، فأحسن وأجاد، حيث قال:

فإن يكُ سَيَّارُ بن مُكْرَمٍ انْقضَى ... فإنك ماءُ الوردِ إن ذهبَ الوَرْدُ

وقال:

فإن تكُنْ تَغْلِبُ الغَلْباءُ عُنْصُرَها ... فإنَّ في الخمرِ معنىً ليس في العِنَبِ

وقال:

فإن تَفُقِ الأنام وَأنت منهمْ ... فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ

وقال:

وما أنا منهمُ بالعَيْشِ فيهمْ ... ولكن مَعْدِنُ الذهبِ الرَّغامُ

ولبعضهم منه:

وكان أبوك لنَا كالْحَيَا ... فوَلَّى وأبْقاك مثلَ الغَدِيرِ

وله أيضاً:

ألاَ للهِ قومٌ إن تَولَّوْا ... لهم نَسْلُ يُسَلُّونَ المُصابَا

فإنهمُ الْحَيَا وَلَّى وأبْقَى ... لنا رَوْضاً وأنْهاراً عِذابَا

إليك ارْتمتْ فِينا قَلوصٌ كأنها ... قِسِيٌّ بأسْفارٍ كأنَّهُمُ نَبْلُ

يعني أنحلها السرى، بحيث صارت من الهزال كالقسي.

وأول من وصف النوق بهذا الوصف البحتري، في قوله:

يتَرقْرَقْنَ كالسَّرابِ فقد خُضْ ... نَ غِماراً من السَّرابِ الجاري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015