فكُن على ثقةٍ أنِّي على ثقةٍ ... أن لا أُعلِّل نفسِي اليومَ بالخُدَعِ
فما يَضرُّك عندي اليومَ هجرُك لِي ... ولستُ إن سُمْتنِي وصلاً بمُنْتَفِعِ
هجرتُ ذِكْرَك عن قلبي وعن أُذُنِي ... وعن لسانِي فقُل ما شئتَ أو فَدَعِ
إذا تبَاعدت قلبي عنك مُنصرِفٌ ... فليس يُدْنِيكَ منِّي أن تكون مَعِي
ومن ظرفه قوله:
أمُعِيرُ قَوْلي أنت سمعَك مَرَّةً ... كَرَماً فأذكرُ إن رأيتُ فُضولاَ
والنصحُ قُرْطٌ ربما يُجْدِي الفتى ... في السمعِ محمولُ النَّهِيِّ ثقيلاَ
وسواك يفهم إن عنيت بمقولي ... فعلى اسْتماعِك أجعلُ التَّعْويلاَ
وإذا نظرتَ وأنت عارفُ عِلّةٍ ... لم تَعْيَ عن أن تعرف المَعْلولاَ
وكتب لبعض أخلائه:
أكلِّفُ نَسْماتِ البُكورِ تكلُّفاً ... بحَمْل سلامي أو ببَثِّ غرامِي
فتدْنَف مما قد تضمَّن من جَوىً ... وتضعُف عن أعْباءِ شرح أُوامِي
وتعثُر في الأذْيال من ثِقْلِ حملِها ... ويُزعجِهُا فيه لهيبُ ضِرامِي
فرّقتُها من رحمةٍ لي وطِيبُها ... شَذَى مِدْحتي فيكمْ ونَشْرُ سلامِي
وكتب إليه مفتي الشام عبد الرحمن العمادي، وهو قاضٍ بطرابلس:
مولايَ أُنْسِي الذي طابتْ طَرابُلُسٌ ... به وأصبح فيها الوحشُ في أُنسِ
ومن غَدا فضلُه في العصرِ مُشتهرَاً ... كالشمِس في شَفَقٍ والصبح في غَلَسِ
أنتَ الذي فَخَر العَصرُ العصورَ بهِ ... وقصَّرتْ كلُّ مصرٍ عن طَرابُلُسِ
قد كان لي حَرُّ أشوقٍ فضاعَفَه ... قُربُ الديارِ كشَبِّ النارِ بالقَبَسِ
لكن رجَوْنَا لقاءً منك يُطفئِه ... يا رَبِّ فاجعلْ رجانا غيرَ مُنْعكِسِ
فاجابه بقوله:
هذا كتابُك أم ذِي نفْحةُ القُدُسِ ... يا طيَّبَ اللهُ زاكِي عَرْفِ ذَا النفَسِ
فقد حَلا كُلَّما كدَّرْتُه بفَمِي ... كأنه أشْنَبٌ قد جادَ باللَّعَسِ
كأنَّما كلُّ سَطْرٍ مُفْعَمٍ أدَباً ... غُصنٌ تُوقِّره الأثمارُ لم يَمِسِ
كأنَّهنَّ المَهارِي وِقْرُها دُرَرٌ ... وفي سوى القلبِ والأسْماعِ لم تَطُسِ
نظمٌ بديع جِناسُ الإلتفات حَلا ... منه فباللهِ هذا ظَبْيةُ الأنسِ
مخائلُ السحر تبدو من دقائِقه ... كاللَّحْظِ أجفانُه مالتْ إلى النَّعَسِ
لنا به كلَّ وقتٍ عن سواه غِنىً ... في طلعةِ الشمسِ ما يُغنِي عن القَبَسِ
تكسو المَسامعَ أشْنافاً صناعتُه ... وتكْتسِي صُنْعَ صَنْعاءٍ وأنْدلُسِ
فبينما نحن نَجْنِي من أزاهرِها ... إذ أشْرقتْ وهْي مثلُ الزُّهْرِ في الغَلَسِ
وبينما هي تُجْلَى في طَرَابُلُسٍ ... والشام طَلَّتْ على مصرٍ ونابُلُسِ
أذْكَرْتني منه ما لم أنْسَه أبداً ... ولم يزَلْ مُؤنسِي في مجلسِ الأُنُسِ
يا مَن تنزَّه عن إحْصا فضائلِه ... هل في حسابِك أُنْسِي للعهدِ نَسِي
وإنَّني لَحفِيظٌ للوِدادِ ولو ... أعْياك رسمُ ودادٍ غيرُ مُنْدرِسِ
لا زلتَ عُمْدةَ أهلِ الفضلِ في صَعَدٍ ... إلى العُلَى يا عِمادِي غَيرَ مُنْتَكِسِ
ما لِي سوى نسماتِ الشِّعرِ أبْعثُها ... تحيةً لدمشق من طَرابُلُسِ
شيخ الإسلام زكريا بن بيرام مفتي الديار الرومية، والممالك العثمانية، وأجل من كل من انفتحت عن مآثره الشقائق النعمانية.
هو من جوهر الفضل مكون، وكتاب الدهر بمحاسنه معنون.
ما طلعت نجوم فتاويه إلا وأشرقت آفاق الدنيا رونقاً وابتهاجا، ولا امتطى صهوات أبحاثه إلا كان له نور الفهم على دهم الإشكال سراجاً وهاجا.