وتمسّك، يهدي إليك سلاماً كأنّما تعطّر مسك ثنائك وتمسّك، واكتسب من لطف طبعك الرقة، واستعار من سنا وجهك حلّة مستحقّة، وتحية لم يكن مناه إلا أن تكون بالمواجهة، والمحاضرة والمشافهة، على أن فؤاده لم يبرح لك سكناً، وأحشاءه لك موطناً، ويبدي دعواتٍ يحقّق الفضل أنّها من القضايا المنتجة، وأن أبواب القبول لها غير مرتجة، مقبّلاً أياديك التي وكفت بوابل جودها، فهذا يرفل في حللها، وهذا يتحلّى بعقودها:
فهي التي تعنو الرّياض لرقمها ... ويغار منها الدّرّ في تنضيدها
ويحار أرباب البيان لنظمها ... فهم بحضرتها كبعض عبيدها متمسكاً من ولائك بوثيق العرى، متمسكاً من ثنائك الذي لا يزال الكون منه معنبرا، متشوقاً للقائك الذي بالمهج يستام وبالنفوس يشترى، متشوفاً إلى ما يرد من أنبائك التي تسرّ خبرا، وتحمد أثرا، أعني بذلك المولى الذي أقام بفناء الفسطاط مخيماً، وانتجع حماه رائد الفضل ميمماً، وشدّت لفضائله الرّحال، ووقفت عندها بل دونها فحول الرجال، وطلعت شموس علومه في سماء القاهرة، فاختفت نجوم فضلائها والأشعة باهرة:
هو الشّمس علماً والجميع كواكبٌ ... إذا ظهرت لم يبد منهم كوكب فهو العالم الذي سرى ذكره في الآفاق، مسير الصّبا جاذب ذيلها النسيم الخفّاق، الذي أطلع شمس التحقيق من أفق بيانه، وأظهر بدر التدقيق من تبيانه، فلهذا عقدت عليه الخناصر بين علماء عصره، وانعطفت إليه الأواصر من فضلاء مصره، فلا يضاهيه في ذلك أحد في زمانه، وينسق ما نسقه من درّه ومرجانه، فهو المعوّل عليه في مشكلات العلوم، معقولها ومنقولها والمنطوق والمفهوم، الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور، ولم يأت بنظيره تتابع الأعصار