وزرت أَجداثاً لأولياء وصالحين ختمتها بقبر الولي المتبرك به أبي عبد الله محمد الهَزْميرِيّ.

وكان الانصراف عنها من الغد، وماشينا أدواح الزيتون والأشجار، تساوقها جَرِيَّاتِ الأنهار، تتخللها أطلال الحِلَل والديار نَيِّفاً على شطر البريد لا تنال صفح ثراه الشمس ولا ترتاده الحرباء، تتجاوب أصوات الحمام المطوّق فوق غصونه. وقد اقتطعت ذلك الجناب الخصيب أيدي الوحشة، وأخيفت من حلل غابة السابلة، وسكن ربوعه الآهلة البوم، فيا لها من مدينة غَزُر ماؤها وصح هواؤها، وأينعت أرجاؤها، وضفى عليها من المحاسن رداؤها.

وانْتَهَبْنَا السهل انتهاباً، فدخلنا المدينة في مُتَمَكَّنِ الضحى، وألفينا محلّة ولد السلطان مولانا قد استعجل الأمر استقدامها، فخيمتْ على فرسخين، فشرعنا في الإياب وانتحينا طريق الساحل لنستدرك بمدينة آسفي. زيارة من بها من أولياء الله الصالحين وعباده المقربين.

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

قلت نعم والفرقدان، سبحان من استأثر بالبقاء لا إله إلا هو.

ولقيت بهذه المدينة جملة من أولي الدين والدنيا، فمن أهل الدنيا الشيخ الجليل كبير القطر، ومفزع الرأي ومسيطر خاصة الإمارة، متصرف وجوه الوجوه أبو ثابت عامر بن محمد، وأخوه هضبة الوقار، ونير الأفق، وزهرة روض ذلك الحَزْن، وياقوتة ذلك الجبل، وقد مر من التعريف بهما ما يغني عن الإعادة. ومنهم نائب الملك وحافظ الرَّسم وجار القصر الشيخ الفقيه علي بن العباس بن موسى بن أبي حَمُّو، المعتام لكفالة أولياء العهد، المستظهر بأمانته وصدقه على حفظ الأقطار المستباح الحِمَى في سبيل الوفاء، أجمل الشيوخ وَجْنَةً. وأسناهم شيبة، وأحسنهم صورة، إلى الخُلُق السهل واللسان البلبل الإطراء والبر، والذرع الفسيح، والمخاطبة الفضلة بفرائد التسويد، تكررت على المدى زيارته، وانصرفت شطر الوجهة عنايته، واسترخصت في استجلاب القصور والمعاهد هِشَّته، وخفت إليها على الكبر والرَّقْبة حركته.

ثم جمعت بين الغُرَّةِ العتيقة والمهنَّدة المحلاة والصامت الدَّثِرِ هديته، عن خصاصة متقرره، وحال رقيقه لقصور دخله عن خرجه، وما جرَّه كف يده، ووازع عفته، وجناه الوفاء من نكبته. أصلح الله حاله، وزاده من جميل نظر المُلك ما يقيم أوده.

ومنهم والي الوطن ومؤمن السبل وجَمَّاعة مال الجباية، الشيخ الرئيس الفقيه أبو عبد الله بن حسُّون بن أبي العَلي وقد مر بعض ذكره. وهو فريد العصر بل الدهر في الخلال المُبِرَّة والخصال الحرة، من مُذَكِّرٍ بالبرامكة، مُغَبِّرٍ في وجوه سُيَّاقِهم انتهازاً لفرص المكارم، وتهالكاً في هوى المآثر، ما شئت من مُغْلٍ لبضائع الحمد، منتقب بوَرد الخجِلَة، مرسل أعنة الاعتذار في أعقاب ملوكي العطية، يهب الكتائب غائمات، والمَهَى مستردفات، والجياد عِراباً، يقوم على الأصلين والمنطق، وهما الفنانان المهذبان للعقل المستدعيان لكثير من المواد، يُعترف له بالتقدم في ذلك، مشاركٌ في غيره، حسن الصورة، مهيب جَزْلٌ وقور حاسر عن الاطلاع والكفاية، لم يبلغ عندي في البر مداه، ولا بل جناحُ شكري ندى كَنَدَاه. ولقد أقسم بالغموس بعد أن بان رِزْحُه من وظائفه الباهظة، وقعود زمنه عن أمله، وقصور وُجده عن مرمى هَمِّه أن لو ألفى سَعَتَه التي تعودها، لنقدني ثمن ما غُصبْتُه بالأندلس عن يد، إبلاغاً في المكارمة ونزعاً إلى هدف الحرية، واسترقاقاً لرقَبة السؤدد. حفظ الله نعمته، وحاط حظوته، ورد عنه النوائب صاغرة، والحوادث ناكصة. وكثيراً ما خاطبته بعد وداعه من محال كرامته بالطريق من عمالته الفسيحة الخطَّة، وقد ألزَمَ من نبلاء خُدامه من تمم الوظائف وكمل المآرب بمثل قولي:

يا خاتمَ الفضل أو يا حاتم الزمن ... ومشتري الحمد بالغالي من الثمن

ومرسل المثل الجاري بكل عُلا ... فوق البسيطة من شام إلى يمن

يا من إذا ما حكاه الجِلَّة افتضحوا ... إذ التَورُّمُ ممتاز من السِمَنِ

يا من تلقيتُ منه الخَلْقَ في رجل ... وقدتُ نافرة الأيام في رسن

لله ماذا رأت عيني وقد لمحت ... ذاك الكمال وماذا قُلِّدت أذني

ذع ذكر قيصر أو كسرى وما جمحت ... به الحكاية عن سيف بن ذي يزن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015