كتبتُ أغبطُك، أعزك الله، بتسويغ اللذات، وتهنى طيب الحياة، ولباس خِلَع الخلاعة ولو قامت الساعة، فإنما الإنسان بيومه لا بقومه، وبوقته لا بالمبالات بمقته، وأدعو الله أن يُجزل أجرتك، ويتقبلَ هجرتك، ويُؤَمِّنَ من الشرط حجرتك، ويعطف على محلِّكَ قلوبَ الفتيان، ويقربهم للإتيان، ويقطع بشهرة قينتك حظوظ القيان، ويسلبك الغيْرة التي تفسد العشرة، وتكشف القشرة، وكأنني بك أعزك الله وقد ظهرت بوجهكَ سعفة النبيذ، وتَفَطَّر لها جلد وجهك تفطُّر جلد الجَدي الحنيذ، وأصاب أسنانك الحَفَر، وريحك البَخَر، وعينك الشَّتَر، وشعرك الحَزَاز ويدك الكُزَاز، وأصبحت مخموراً، مَنْهياً من عيالك مأموراً، وقد أعْلفت عمامتك بسروالك، وسدلت القشرة البيضاء إلى أسمالك، وقعدت بدُكة بابك تتلقف العيَّارة، وتعترض السيارة، وتُعيِّنُ للوقت الزيارة، فإذا اقتضيت النقد من الخرْج، ودَلَلْتَ الفحول على المرج، وخَطبتَ لمشاهدة الرقص والدَّرج، نهضت لشراء مُرِنِّ حجولك، وما يتكفل بسولك، من طراوةٍ تصقُل البشرة وتنقيها، ولخلخة تستر رائحةَ الإِبْط وتخفيها، وسَنونٌ يطيب الفم، ويوافق الشم، وضمادٌ يشد الثدي إذا ذَبُل، وفَرْزَجة تمنع الحبل، وحَشَوْت جنبيك أوتاراً، وأعددت دُستاناً ثانياً وحمَّاراً، وشاركت على المرابحة خمّاراً، وبسطت نِطع القعود، وأعددت لإيداع الفتوح غشاء العود، وترددت إلى الباب توقعاً لإخلاف الوعود، فأقسم عليك يا سيدي أن لا تُغْفِلَنَا من بالك، ولا تنسنا من حَرامِك المصحَّفِ أو حلالك، وأَسهِمنا في فضل تجارتك، وعيْنَ جُعالتك وإجارتك، واضرب لنا بحظٍ في قسْم ما في طنجهارتك - والسلام.
وفي السادس لذي قعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة المذكور، طرقني ما كدَّر شُربي ونغص عيشي من وفاة أو الولد عن أصاغرَ زُغْبِ الحواصل بين ذكران وإناث في بلد الغربة وتحت سرادق الوحشة، ودون أذيال النكبة، فَجَلَّت عليها حسرتي واشتد جزعي، وأشفيت لعظم حزني، إذ كانت واحدة نساء زمانها جزالة وصبراً ومكارم أخلاق، حازت بذلك مزية الشهرة حيث حلَّت من القطرين، فدفنتها بالبستان المتصل بالدار بمدينة سلا، ووقفت على قبرها الحبس المغل لمتولي القراءة دائماً عليها، وصدر عني مما كتب على ضريحها وقد أغرى به التنويه والاحتفال:
رُوِّعَ بَالِي وَهَاجَ بَلْبَالي ... وسامني الثُّكْلُ بَعْدَ إقْبَالِ
ذخيرتي حين خانني زمني ... وعُدَّتي في اشتداد أهوال
حفرت في داريَ الضريح لها ... تعللاً بالمُحال في الحال
وغبطةٌ توهم المقامَ معي ... وكيف لي بعدها بإِمْهال
سقى الحيا قَبْرَكِ الغريب ولا ... زال مُناخاً لكل هَطَّالِ
قد كنتِ مالي لما اقْتَضَى زَمَني ... ذهابَ مالي وكنت آمالي
أمَّا وقد غاب في تراب سلا ... وجهُكِ عني فلست بالسالي
واللهِ حزني لا كان بعد على ... ذاك الشبابِ الجديد بالبالي
فانتظريني فالشوق يقلقني ... ويقتضي سُرعتي وإعجالي
ومهدي لي لديك مضطجعاً ... فَعَنْ قريبٍ يكون ترحالي
واسمُكِ مقلوبُه يُبيِّنُ لي ... مآلَ أمري في معرض الفال
وقلت في هذا الغرض وهو معنى صوفي:
يا قلبُ كم هذا الجوى والخفوتْ ... ذماءَك استبْقِ لئِلاَّ يَفُوتْ
فقال لا حول ولا قول لي ... قد كان ما كان فحسبي السكوت
باينني الرشد وباينته ... لما تعشقتُ بشيء يموت
وخاطبت الرئيس الثَّبْت بقية الأشراف بهذا الموطن، عامر بن محمد بن علي الهنتاتي:
أبا ثابت كن في الشدائد ثابتاً ... أعيذك أن يُلْفَى حسودك شامتا
عزاؤك عن عبد العزيز هو الذي ... يليق بعز منك أعجز ناعتا
فدوحتك الغناء طالت ذوائباً ... وسَرْحَتُكَ الشماء طابت نوابتا
لقد هدّ أركانَ الوجود مصابُه ... وأنطق منه الشجوُ من كان صامتا
فمِنْ نَفْسِ حرٍ أوثق الحزنُ كظمها ... ومن نَفَسٍ بالوجد أصبح خافتا
هو الموت في الإنسان نصْل لحده ... فكيف نرجِّي أن نصاحب مائتا
وللصبر أولى أن يكون رجوعنا ... إذا لم نكن بالحزن نُرْجِعُ فائتا