ولحق هذا العهد في سبيل الفرار جملة من القرابة النصريين كأحمد بن محمد بن نصر المُنْبَز عُبيد ابن المولى، رجل حسن الشكل خلوب اللفظ خريج الحنكة، قذف به الاغتراب فاكتسب مراناً، وأخيه علي بن محمد، وقد مرَّ ذكره، وإبراهيم بن محمد ابن إسماعيل بن نصر يقع من المتغلب ابن ابن عم جده، صبي دسّ له عرق كفاية، عَرَسَه أبوه في آثر البقع بيت بني سَهْل، فأبَرَّ على قومه بخؤُولة كريمة وَلَقَبْل ما تقدم تغريبه، ثم قفل لأول هذه الكائنة ثم نجا جنبه فعاد أدراجه.
وممن لحق بالباب السلطاني الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله ابن الحسن النباهي المخصوصُ كان على عهد الدولة المكيدة برسم الوزارة، المفوّض له في الأمور، من رَجُلٍ بعيد المدى في ميدان الأصالة، سابغ ذيْل العفاف، مكفوف اليد، أوعز إليه مخبر ألهم بالقبض عليه، فاتخذ الليل جملاً من بعض ضياعه ولحق بالإيالة المرينية. وخاطبني من سَبْتَه بما نصه مما يدل على خصْلِه: يا أيتها الآية البالغة، وقد طمست الأعلام، والغرّة الواضحة. وقد تنكرت الأيام، والبقية الصالحة وقد ذهب الكرام، أبقاكم الله تعالى البقاء الجميل، وبلَّغكم غاية المراد ومنتهى التأميل، أبَى الله أن يتمكن المقام في الأندلس بعدكم، وأن يكون سكون النفس إلا عندكم، سر من الكون الغريب، ومَعْنَي في التشاكل عجيب، أختصر لكم الكلام، فأقول بعد التحية والسلام: تفاقمت الحوادث، وتعاطت الخطوب الكوارث، واستأسدت الذئاب الأخابث، ونكث الأكثر من ولد سام وحام ويافث، فلم يبق إلا كاشح باحث، أو مكافح عابث، ويا ليت شعري من الثالث؟ فحينئذٍ وجهت وجهي للفاطر الباعث، ونجوت بنفسي ولكن مَنْجَى الحارث، وقد عبرت البحر كَسِيرَ الجناح، دامي الجراح، وإني لأرجو الله سبحانه بحسن نيتكم أن يكون الفرج قريباً، والصنع عجيباً، فعمادي أعان الله على القيام بواجبه، هو الركن الذي ما زلت أميل على جوانبه، ولا تزيدني الأيام إلا بصيرة في الإقرار بفضله والاعتداد به، وقد وصلني إلى المحروسة سبتة خطاب سيدي الأوحد الذي جَلَى الشكوك بنور يقينه، ونصح النصح اللائق بعلمه ودينه، وكأنه نظر إلى الغيب من وراء حجاب، فأشار بما أشار به على سارية عمر بن الخطاب، ومن العجب أني عملت بمقتضى إشارته، قبل بلوغ إضْبارته، فلله ما تضمنه مكتوبكم الكريم من الدر، وحرره من الكلام الحر، وأيم الله لو تجسم لكان مَلَكاً، ولو تنسم لكان مسكاً، ولو قبس لكان شهاباً، ولو لبس لكان شباباً، فحل مني علم الله تعالى محل البُرءِ من المريض، وأعاد الأنس بما تضمنه من التعريض، والكلم المزري بِقَطع الروض الأريض فقبلته عن راحتكم، وتخيلت أنه مُقيم بساحتكم، ثم وردتُ مَعِينه الأصفى، وكلت من بركات مواعظة بالمكيال الأوفى، وليست بأولى أياديكم، وإحالتكم على الله فهو الذي يجازيكم. وأما موصل كتابكم وهو صاحبنا أبو فلان فعزلني في الارتحال وكأنه لم يقرأ باب الحال فراجعته منشداً:
أيا راكبَ البحر الأجَاجِ مُخَاطِراً ... تقدم باسم الله مرساك والمجرا
وبلغ أمانات المشوق ولا تقل ... ترَّحل مختاراً لعل له عذرا
وبالجملة فالأمور بيد الأقدار، لا إلى المراد والاختيار:
وما كلّ ما ترجو النفوسُ بنافعٍ ... ولا كلّ ما تَخْشَى النفوسُ بضَرَّار
والله يقربُ المزار ويُدني الدار من الدار وهو سبحانه يمتع ببقائكم ويعيد الأنس بتيسير لقائكم بمنه وكرمه.