"أن الأصل ألا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع، وإنما يطالبون بالزكاة وما أوجبه القرآن والسنة، كالفيء والركاز، وإرث من يرثه بين المال. وهذا ما أمكن به حمل الوطن وما يحتاج له من جند ومصالح المسلمين وسد ثلم الإسلام.
فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك. وعند ذلك يقال: يخرج هذا الحكم ويستنبط من قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} الآية.
لكن، لا يجوز هذا إلا بشروط: الأول: أن تتعين الحاجة. فلو كان في بيت المال ما يقوم به، لم يجز أن يفرض عليهم شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس على المسلمين جزية" وقال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة صاحب مكس". وهذا يرجع إلى إغرام المال ظلمًا.
الثاني: أن يتصرف فيه بالعدل، ولا يجوز أن يستأثر به دون المسلمين، ولا أن ينفقه في سرف، ولا أن يعطي من لا يستحق، ولا يعطي أحد أكثر مما يستحق.
الثالث: أن يصرف مصرفه بحسب الحاجة لا بحسب الغرض.
الرابع: أن يكون الغرم على من كان قادرا، من غير ضرر ولا إجحاف. ومن لا شيء له، أو له شيء قليل، فلا يغرم شيئًا.
الخامس: أن يتفقد هذا في كل وقت. فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على ما في بيت المال"1.
وليس فقهنا اليوم -وقبل اليوم -بحاجة إلى شيء قدر حاجته إلى مثل هذا التقدير المصلحي السديد، وإلى مثل هذا الحرص الشديد على مصالح الإسلام والمسلمين. ولا شك أن هذا يحتاج إلى خبرة كبيرة بالمصالح والمفاسد، وإلى مستوى عال من التشبع بمقاصد الشريعة. وقد ذهب الشاطبي إلى أن الاجتهاد في تقدير وترتيب المصالح لا يحتاج إلى أكثر من هذا، قال: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط