ومن الأمثلة أيضَا: الطهارات بمختلف صورها، من وضوء واغتسال، واستياك وطهارة بدن ولباس، فلا شك أن إشاعة التطهير والتنظيف1 في حياة الناس، هي الحكمة والمقصود، وهي العلة الحقيقية لأحكام الطهارات، ولكن مع هذا لم يقل الشارع للناس: كلما اتسختم وتنجستم فتطهروا، لأن هذا أمر لا ينضبط لهم. ولهذا ناط أحكام الطهارات بأسباب وعلل ظاهرة منضبطة، تتكرر في حياة الناس بكيفية تفضي إفضاء كافيًا إلى تحقيق المقصود، وذلك كخروج شيء من السبيلين، والجنابة، والحيض، والنوم، والجمعة.
فهذه الأوصاف -أو الأمارات- الظاهرة المنضبطة، يطلق عليها: العلل، أو الأسباب أحيانًا. بينما العلة الحقيقية، والسبب الحقيقي، هو مقصود الحكم وحكمته، من جلب مصلحة أو درء مفسدة، أو هما معًا. ولكن الشارع يربط الأحكام بأمارات ظاهرة منضبطة، تجنبا للميوعة والفوضى في التشريع. على أن تلك الإمارات تكون متلازمة عادة مع المصالح أو المفاسد التي هي علة التشريع الحقيقية، أو بإصطلاح القوم: تكون مظنة لها. قال الشاطبي: "نصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية"2.
وقد تتبع الدكتور محمد مصطفى شلبي استعمالات الأصوليين لمصطلح العلة، وحصرها في ثلاثة استعمالات فقال: "لفظة العلة أطلقت في لسان أهل الاصطلاح على أمور:
- الأمر الأول: هو ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر.
- الأمر الثاني: ما يترتب على تشريع الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة.
- الأمر الثالث: وهو الوصف الظاهر المنضبط، الذي يترتب على تشريع الحكم عنده مصلحة للعباد.
فإنه يصح تسمية هذه الأمور الثلاثة بالعلة. ولكن أهل الاصطلاح -فيما بعد- خصوا الأوصاف باسم العلة، وإن قالوا إنها علة مجازًا، لأنها ضابط للعلة