عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت من أنواعه نوعًا دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء إلى أن منَّ عليَّ الرب الكريم، الرءوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي.
فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملًا واعتقادًا، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول1.
ولا شك أن هذا السير المتأني الصبور، وهذا السعي الحريص على الإحاطة والإتقان، لا شك أن هذه الصفات -بعد توفيق الله الذي لا يفتأ يذكره- هي التي هيأت له ذلك السمو وذلك النضج، اللذين تميزت بهما كتاباته، وخاصة في "الموافقات".
ومما رواه الشاطبي في "الإفادات" أن أبا الحسين البصري -الأصولي النظار المعتزلي - كان يقول فيه بعض الشيوخ: إذا خالف أبو الحسين البصري في مسألة، صعب الرد عليه فيها2.
وهذا لا يكون -طبعًا- إلا إذا أتقن الرجل مسألته وأحكم حججه.
وقد سقت هذه لأقول: إن الشاطبي أيضًا -بتأنيه وإتقانه وإحاطته- إذا قرر أمرًا، صعبت زعزعته، فضلًا عن إبطاله.
ولعل هذا هو ما يفسر لنا قلة مؤلفات الشاطبي -بالنسبة إلى مكانته العلمية- وكونه أتلف بعضها بنفسه، لأنه -ربما- كتبها في وقت متقدم من حياته، ثم رآها لا تستوفي الشروط المطلوبة لبثها في الناس.