والعجيب أن الكثير من شعائر الإسلام لم تكن فُرِضت في هذه المرحلة حتى نقول بأن التزامهم بالعبادات والأعمال الصالحة كان السبب في هذا الإيمان الفذ ..

فكيف وصلوا لهذا المستوى؟!

ماذا فعل معهم مُصعب بن عمير؟!

كل ما في الأمر أن مصعبًا عندما ذهب إلى يثرب كان معه ما نزل من القرآن، أو بعبارة أخرى كانت معه المعجزة التي نزلت من السماء والتي من شأنها أن تُحدث زلزالًا رهيبًا في القلوب فلا تستقر بعده على حالها السابق، بل تكون في حالة من الانبهار الشديد، والاستسلام لرب هذه المعجزة.

لقد كان مصعب يُدرك أن معه معجزة عظيمة له آثار مزلزلة على من يتعرض لها، لذلك كان إذا أراد أن يدعو أحدًا إلى الإسلام؛ يقرأ عليه آيات من القرآن، فيحدث له الزلزال ومن ثَمَّ التسليم والإذعان الفوري، لدرجة أن أهل يثرب أطلقوا عليه لقب: «المُقرئ»، ولك - أخي القارئ - أن تتأكد من هذا الأمر إذا ما قرأت قصة إسلام أُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.

فأُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ كانا من سيدي (الأوس)، وقد ضاقا ذرعًا بالدعوة الجديدة التي يحمل لوائها مصعب بن عمير، فعزما على إخراجه من يثرب بعد أن تزايد عدد من أسلم من أهلها على يديه، وذات مره كان مصعب في بستان من بساتين بني (عبد الأشهل) يدعو الناس إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن، فإذا بأُسيد يأخذ حربته ويتوجه نحو البستان، فلما رآه أسعد بن زرارة مقبلًا قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه وأرجحهم عقلًا: أسيد بن حضير، فإن يُسلم يتبعه في إسلامه خلقٌ كثير، فاصدق الله فيه ..

وقف أسيد بن حضير على الجمع، والتفت إلى مصعب وصاحبه أسعد، وقال: ما جاء بكما إلى ديارنا، وأغراكما بضعفائنا؟! اعتزلا هذا الحي إن كانت لكما بنفسيكما حاجة.

فالتفت مصعب إلى أسيد قائلًا: يا سيد قومه، هل لك في خير من ذلك؟

قال: وما هو؟

قال: تجلس إلينا، وتسمع منَّا، فإن رضيت ما قلناه قبِلته، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد إليكم.

فقال أسيد: لقد أنصفت، وركز رمحه في الأرض وجلس، فأقبل عليه مصعب فكلمه عن الإسلام، وقرأ عليه شيئًا من آيات القرآن، فانبسطتت أساريره، وأشرق وجهه، وقال: ما أحسن هذا الذي تقول، ما أخلَّ ذلك الذي تتلو!! كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام؟

قال مصعب: تغتسل وتطهر ثيابك، وتشهد أن إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتصلي ركعتين ففعل، ثم قال: إن ورائي رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن - سعد بن معاذ - ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه. فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

ثم ذهب سعد إلى مصعب فحدث له ما حدث لأسيد .. حدث له الزلزال فأسلم واستسلم لله، وخرج مسرعًا إلى قومه يقول لهم: إن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله (?).

الجيل الرباني:

من هنا نقول بأن القرآن الكريم هو الوسيلة العظيمة والمتفردة التي قامت بتغيير الصحابة .. ويؤكد فريد الأنصاري على هذا المعنى فيقول: إن القرآن الكريم كان هو الباب المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت الله، حيث صُنعوا على عين الله .. إنه السبب الوثيق الذي تعلقت به قلوبهم، فأوصلهم إلى مقام التوحيد (?) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» (?).

(لقد توثَّق ارتباط الصحابة بالقرآن في العهد النبوي، ارتباطًا عمَّق صلة القلوب بربها، إلى درجة أنهم كانوا يتتبعون الوحي تتبع الملهوف الحريص على الترقِّي في مدارج المعرفة بالله والسلوك إليه سبحانه، فهذا عمر بن الخطاب عندما كان مكلفًا، وصاحبًا له بالمرابطة في ثغر من ثغور المدينة، ترقُّبًا لغزو مُتوقَّع من ملك غسان) (?) كان يتناوب النزول مع صاحبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة خبر الوحي، فيقول في ذلك:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015