الفصل الخامس
تأسيس القاعدة الإيمانية
بناء القاعدة الإيمانية يعني تمكين الإيمان بالله عز وجل في المشاعر المختلفة، ليُصبح المرء رقيق القلب، سريع الاستثارة عند تعرُّضه لأدنى مؤثر، فينعكس ذلك على طريقة تعامله مع أحداث الحياة بتقلباتها المختلفة.
والمقصود بتمكين وبناء الإيمان في المشاعر المختلفة هو بناء الثقة في الله عز وجل، وفي أسمائه وصفاته، وفي اليوم الآخر، وبقية أركان الإيمان.
هذه الثقة والطمأنينة عليها أن تكون لها اليد الطولى في المشاعر المختلفة.
فإن تساءلت: وكيف يُمكن للإيمان أن يصل إلى هذه الدرجة؟!
قد يُجيب البعض عن هذا التساؤل إجابة نظرية؛ فيطرح أعمالًا ووسائل من شأنها - في نظره - أن تصل بالمرء لهذا المستوى الإيماني، فمن قائل: بأن علينا الإكثار من صيام النفل وقيام الليل ومكابدة ذلك وتحمله سنوات وسنوات، ومن قائل بالإكثار من الأوراد والأذكار والتسابيح، إلا أن هذه الإجابة تختلف عن إجابة البعض الآخر الذي يتبنى - من الناحية النظرية القيام بأعمال أخرى كالإكثار من الأعمال الاجتماعية ذات النفع المُتعدِّي للآخرين ..
مما لا شك فيه أن كل هذه الأعمال الصالحة وغيرها لها وظيفة عظيمة في زيادة الإيمان شريطة أن تُؤدى بإحسان - كما أسلفنا -، لكننا هنا نتحدث عن القاعدة الإيمانية باتساعها في القلب، والتي تسبق الأعمال الصالحة في الترتيب في الأهمية.
إن طريقة بناء تلك القاعدة في المشاعر المختلفة يحتاج إلى نوعية خاصة من الأعمال التي تُخاطب العقل وتقنعه بكل ما ينبغي الإيمان به، وتستثير في الوقت ذاته المشاعر حتى تتحول القناعة العقلية إلى حالة إيمانية يعيشها القلب .. على أن تستمر هذه المخاطبة حتى تتحول تلك الحالة إلى إيمان مستقر في القلب، وليس ذلك فحسب بل ينبغي أن يتناول ذلك جميع المشاعر المختلفة التي تظهر ثمار الإيمان في كل الأحوال والتقلبات الحياتية التي يتعرض لها المرء.
لكي نتفق على الطريقة الصحيحة لتأسيس القاعدة الإيمانية علينا أن نبحث في التاريخ عن نموذج حقيقي من البشر ظهرت عليه آثار وثمار الإيمان المتنوعة والشاملة والتي تُعَدّ بمثابة مرآة تعكس وجود تلك القاعدة في القلب، فإن وجدناه علينا أن نتحرى عن الأسباب التي أدَّت إلى تكوينها بإذن الله.
والباحث المنصف في تاريخ الأمة لن يجد إلَّا جيلًا واحدًا ظهرت عليه تلك الثمار الشاملة ألا وهو جيل الصحابة، ولعل ما قيل في الفصل الثاني (ثمار الإيمان) ما يؤكد هذا الأمر.
ليبقى السؤال عن سبب وصولهم إلى هذا المستوى الإيماني السامق حتى نحذو حذوهم، وبخاصة أنهم كانوا قبل إسلامهم في ذيل الأمم، وكانوا يغرقون في ظلمات الجاهلية، وكان حالهم أسوأ بكثير من حالنا الآن .. كانوا يعبدون الحجارة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، ويئدون البنات، ويأكل القوي منهم الضعيف ..
فكيف حدث لهم هذا التحول العجيب؟!
كيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذا المستوى الإيماني الفذّ؟
فإن قلت: قد يكون وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم هو السبب في ذلك. أجبتك أنه ما من شك في أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة كان له دور كبير في استقامتهم، فهو المعلم والمُربِّي، ولكن لو كان الأمر يقف عند هذا الحد لأصبح من المستحيل الوصول إلى هذه الدرجة الإيمانية أو الاقتراب منها في ظل غياب شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه واحدة، والأخرى أنه صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات إيمانية عالية من أُناس لم يسبق له أن رآهم أو تعامل معهم من قبل، فبعد بيعة العقبة أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأهل يثرب - الذين كانوا على شركهم - ليدعوهم إلى الإسلام، وقد كان، وانشرحت الصدور للدين الجديد، وامتلأت القلوب بالإيمان من قبل مجيء المهاجرين إليهم ومن بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي للاستدلال على قوة إيمانهم ما فعلوه مع المهاجرين من إيثار عجيب مع شدة فقرهم، والذي تم الحديث عنه في مقدمة الكتاب، وذكرته الآية الكريمة {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].