وقد انتصبت الأمارة في مقابلة المطمئنة فكل ما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها فإذا جاءت المطمئنة بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك والنفاق وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبة غير الله وخوفه ورجائه، ولا ترضى حتى تقدم محبة غيره وخوفه ورجائه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه، فيكون ما له عندها هو المؤخر وما للخلق هو المقدم، وهذا حال أكثر هذا الخلق، وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي، وأتت من الشبه المضلة بما يمنعها من كمال المتابعة وتحكيم السنة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال، فتقوم الحرب بين هاتين النفسين والمنصور من نصره الله، وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جاءت هذه بأضدادها وأخرجتها في عدة قوالب وتقسم بالله ما مرادها إلّا الإحسان والتوفيق، والله يعلم أنها كاذبة وما مرادها إلّا مجرّد حظّها واتّباع هواها والتفلت من سجن المتابعة والتحكيم المحض للسنة إلى قضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها، ولعمرو الله ما تخلصت إلّا من فضاء المتابعة والتسليم إلّا إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه وظلمته ووحشته فهي مسجونة في هذا العالم وفي البرزخ في أضيق منه، وفي يوم الميعاد في أضيق منهما.
ومن أعجب أمرها أنها تسحر العقل والقلب فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلّها فتخرجه في صورة مذمومة، وأكثر الخلق صبيان العقول أطفال الأحلام لم يصلوا إلى حد الفطام الأول عن العوائد والمألوفات فضلا عن البلوغ الذي يميّز به العاقل البالغ بين الخير فيؤثره والشر فيتجنّبه، فتريه صورة تجريد التوحيد التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر في صورة التنقيص المذموم، وتريه هضم العظماء منازلهم وحطهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذل والفقر المحض الذي لا ملك لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلّا من بعد إذن الله، تريهم النفس السحارة (الأمارة) هذا القدر غاية تنقيصهم وهضمهم ونزول أقدارهم وعدم تمييزهم عن المساكين الفقراء فتنفر نفوسهم من تجريد التوحيد أشد النفار ويقولون أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وتريهم تجريد المتابعة للرسول وما جاء به، وتقديمه على آراء الرجال في صورة تنقيص العلماء والرغبة عن أقوالهم وما فهموه عن الله ورسوله، وأن هذا إساءة أدب عليهم وتقدّم بين أيديهم وهو مفض إلى إساءة الظن بهم وأنهم قد فاتهم الصواب، وكيف لنا قوة أن نرد عليهم ونفوز ونحظى بالصواب دونهم؟ فتنفر من ذلك أشد النفار وتجعل كلامهم هو الحكم الواجب الاتباع وكلام الرسول هو المتشابه الذي يعرض على أقوالهم، فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه أو أولناه وتقسم النفس السحارة بالله إن أردنا إلّا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم.
وتريه صورة الإخلاص في صورة ينفر منها وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشبه بين الناس فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئا تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم