تثير اليقظة نورا يرى المؤمن في ضوئه ما خلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ويرى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فينهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا (يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله) فيستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات، محييا بها ما أمات، مستقبلا بها ما تقدم له من العثرات، منتهزا فرصة الإمكان التي إن فاتته فاته جميع الخيرات.
ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلّب فيها ظاهرا وباطنا ليلا ونهارا ويقظة ومناما سرا وعلانية فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنك بغيرها.
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها وأن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة واحدة منها فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلّا بعفو الله ورحمته وفضله.
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرّد فضل الله ومنّته وإحسانه حيث يسّرها له وأعانه عليها وهيأه لها وشاءها منه، ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذ لا يرى أعماله منه، وأن الله سبحانه لن يقبل عملا يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله له وفضله عليه وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلّا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن الله وحده، صدقة تصدق بها عليه وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويسأله بوسيلة، فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير ويرى نفسه أهلا لكل شر، وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين.
ثم يبرق له في نور اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه فيطمئن قلبه وتنكسر نفسه وتخشع جوارحه ويسير إلى الله تعالى ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلا أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت، فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلا لخير فيوجب له أمرين عظيمين.
أحدهما استكثار ما منّ الله عليه.
والثاني استقلال ما قدمه من الطاعة كائنة ما كانت، ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه وأنه رأس مال سعادته فيبخل به أن يضيعه فيما يقربه إلى ربه فإن في إضاعته الخسران والحسرة