وليس أحد منهم يوما من الدّهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة.
قال المسور بن مخرمة: قلت لأبي جهل- وكان خالي- يا خال هل كنتم تتّهمون محمّدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي لقد كان محمّد وهو شابّ يدعى فينا الأمين، فلمّا خطّه الشّيب لم يكن ليكذب، قلت: يا خال فلم لا تتّبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشّرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلمّا تجاثينا على الرّكب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ، فمتى نأتيهم بهذا» أو كما قال.
وقال تعالى يسلّيه ويهوّن عليه قول أعدائه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (?) .
وقوله: ألينهم عريكة، يعني أنّه سهل قريب من النّاس، مجيب لدعوة من دعاه، قاض لحاجة من استقضاه، جابر لقلب من قصده لا يحرمه ولا يردّه خائبا، إذا أراد أصحابه منه أمرا، وافقهم عليه، وتابعهم فيه، وإن عزم على أمر لم يستبدّ بدونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.
وقوله: أكرمهم عشرة. يعني أنّه لم يكن يعاشر جليسا له إلّا أتمّ عشرة وأحسنها وأكرمها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ له في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ونحوها، بل يحسن إلى عشيرة غاية الإحسان، ويحتمل غاية الاحتمال، فكانت عشرته لهم احتمال أذاهم، وجفوتهم جملة، لا يعاقب أحدا منهم ولا يلومه ولا يبادئه بما يكره، من خالطه يقول: أنا أحبّ النّاس إليه، لما يرى من لطفه به، وقربه منه، وإقباله عليه، واهتمامه بأمره، وتضحيته له، وبذل إحسانه إليه، واحتمال جفوته، فأيّ عشرة كانت أو تكون أكرم من هذه العشرة.
قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جلسائه فقال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وترك ما لا يعنيه، كان لا يذمّ أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رءوسهم الطّير، فإذا سكت، تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده، أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتّى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثّناء إلّا من