وقد أشارت إلى هذا الابتلاء التكليفي أيضا الآيتان الكريمتان وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (?) . وقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (?) . أي أن الابتلاء والاختبار هو في (المقدرة على حسن العمل) وقد جاء في تفسير القرطبي أن معنى «أحسن عملا» أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله، ولهذا لا يكون العمل مقبولا إلا مع الإخلاص وموافقة السّنّة، وقيل: معنى لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء، وعلى ذلك فالابتلاء يتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت (?) .
ويراد به: ما يصيب الإنسان في نفسه أو فيمن حوله من أفراد أسرته من السّرّاء والضّرّاء، وإلى هذا النوع من الابتلاء أشارت الآية الكريمة إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (?) ، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (?) ، وقال سبحانه: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (?) .
المقصود بهذا النوع من الابتلاء: أن يبتلي الله الناس بعضهم ببعض، وذلك إما برفع بعضهم فوق بعض درجات مصداقا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ (?) ، وإما بالتفاوت فيما بينهم في حظوظ الحياة الدنيا من الرفعة والضعة، أو الغنى والفقر وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (?) ، وقال عزّ من قائل: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (?) .
إن الابتلاء هنا يشمل الصنفين جميعا أي المفضّلون (الأغنياء) ، والمفضّل عليهم (الفقراء) ذلك أن الغنى- ما لم يعتصم بالإيمان- يريد زيادة غناه على حساب الفقير بلجوئه إلى الكنز، واستسلامه لغريزة الأنانية، وحب التكاثر والطمع، وينقاد للظلم والفساد أحيانا، وينسى حق الله في ماله فلا يعطف على فقير أو مسكين، ويقسو قلبه ولا يتصف بالرحمة أو الإنصاف في حالات أخرى، أما الفقير- ما لم يتمسك بأهداب التقوى ويصبر على البلوى- فإنه قد يحتال لفقره بالكذب والنفاق ويلجأ إلى زخرف القول ويسعى في الأرض فسادا ليهلك الحرث