الإشكال فيه أنه كيف يعرضن له بالوصل، وهو يدعي أنهن أعرضن عنه. والمعرض لا يعرض بالوصل.

والجواب: أن قد هنا بمعنى حسب، وذلك أحد مواردها. كقول أبي تمام:

قدك اتّئب أربيت في الغلواء.

أي: حسبك. والمعنى: منينني زمانا إلى أن مللت، ثم عرضن لي بالوصال حتى إذا قلت هذا حسبي، أعرضن عني.

واتفق لي فيما قلت بيتان، ثانيهما مشكل، وهما:

قال وقد أبصر دمعي دما ... هذا وما رعتك بالبين

فقلت: لما فنيت أدمعي ... بكيت بالدمع بلا عين

الإشكال في ذلك أنه: كيف يعترف بأن دموعه فنيت ونفدت، ثم يقول بعد ذلك: بكيت بالدمع بلا عين. وكيف يتفق البكاء بلا عين.؟ والجواب: أنه قال أولا إنه أبصره وقد بكى دما فأنكر عليه ذلك، فقال لما نفدت الدموع ولم يبق لي دمع، بكيت بالدم.

والعين هنا إنما يراد بها أحد حروف الهجاء أخت العين المعجمة، لا العين التي هي الجارحة من الإنسان حاسة البصر، فإن الدمع إذا حذفت منه العين كان دما.

هل يمكن إبداع معنى من معنى غير مبتدع

قال: واعلم أنه قد يستخرج من المعنى الذي ليس بمبتدع معنى مبتدع فمن ذلك قول الشاعر المعروف بابن السراج في الفهد:

تنافس الليل فيه والنهار معا ... فمقمّصاه بجلبابٍ من المقل

وليس هذا من المعاني الغريبة، ولكنه تشبيه حسن واقع في موقعه، وقد جاء بعده شاعر من أهل الموصل يقال له ابن مسنهر، فاستخرج من هذا البيت معنى غريبا فقال:

ونقّطته حباءً كي يسالمها ... من المنايا نعاج الرمل بالحدق

أقول: أول أبيات ابن السراج:

شثن البراثن في فيه وفي يده ... ما للقواضب والعسّالة الذبل

والشمس مذ لقبوا بالغزالة لم ... تطلع لخيفته إلا على وجل

وما أدري معنى قوله: استخرج منه معنى غريبا: أي غريب أتى به الثاني؟ والمعنى الغريب هو أن بياض الفهد وسواده يشبه العيون. هذا هو روح هذا المعنى، وأما أن الليل والنهار تنافسا فيه، وأن النعاج سالمته ونقطته، ليس بكثير أمر.

أما انتزاع معنى غريب من معنى آخر، فكقول مسلم بن الوليد:

تظلّم المال والأعداء من يده ... لا زال للمال والأعداء ظلاّما

انتزعه من قول أبي نواس:

بحّ صوت المال مما ... منك يدعو ويصيح

فقول مسلم أفصح ومعناه أبلغ.

وقد اتفقت لي انتزاعات معان من معان هي دونها غريبة.

من ذلك قول بيليك القبجاقي المعري في الأترج.

وأترجّةٍ جاءت إليك هديةً ... فشبهت منها الريح ريح حبيب

إذا نظرت عيني إليها تمثلت ... بكف مريضٍ مدها لحبيب

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

أيا حسن أترجٍ يلوح لناظري ... عليه من الأوراق خضر الغلائل

حكى مستهاما غيّر البين حاله ... وقد عدّ أيام الجفا بالأنامل

ومن ذلك قول شهاب الدين التلعفري:

جريت بحمراء الكميت إلى الشقرا ... مفر الهوى طيبا وأعرضت عن مقرا

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

وحمراء لمّا ترشفتها ... جنيت المسرّة فيما جنيت

ونلت المسرات دون الورى ... لأني سبقتهم بالكميت

ومن ذلك قول مهيار الديلمي:

هل السابق العجلان يملك أمره ... فما كل سير اليعملات وخيد

رويدا بأخفاف المطايا فإنما ... تداس جباهٌ في الثرى وخدود

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

أضحى نسيم دمشق حياها الحيا ... يمشي الهوينا في ظلال حماها

وكأنه من مائها وهضابها ... ما داس إلا أعينا وجباها

ومن ذلك قول ابن التلمساني:

ساقٍ يريني قلبه قسوةً ... وكلّ ساقٍ قلبه قاس

انتزعت منه معنى آخر فقلت:

قلب الدنّ من أحبّ فأضحت ... نفحة الندّ من حميّاه تهدى

قال لي اعجب فقلت غير عجيبٍ ... كلّ دنٍ قلبته كان ندّا

ومن أحسن ما وقفت عليه في الفهد قول القائل:

ومتصفٍ بالفتك عند اكتسابه ... على ظفره شبه الدماء ونابه

كأنّ مهاة الفلك لما انتهى به ... مداه إلى سرب المها وانتهابه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015