ولم يجسر أحد على هذا المعنى قبل عنترة. غير أن ذا الرّمة نقل معنى الصفة إلى الجندب فقال:

كأن رجليه رجلا مقطفٍ عجلٍ ... إذا تجاذب من برديه ترنيم

وقال السلامي في زنبور وأحسن:

ولابس لونٍ واحدٍ وهو طائرٌ ... ملونة أبراده وهو واقع

أغرّ محشّى الطيلسان مديجٍ ... وسود المنايا في حشاه ودائع

إذا حك أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع

بدا فارسي الزيّ يعقد خصره ... ومئزره التبري أصفر فاقع

يرجّع ألحان الغريض ومعبدٍ ... ويسقي كؤوسا ملؤها السمّ ناقع

قوله: إذا حك أعلى رأسه.. البيت، من قول مسلم بن الوليد:

فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأساري أثقلتها الجوامع

نقل السلامي هذا المعنى إلى الزنبور لما ولده من هنا، وشارك عنترة في الصفة مشاركة خفية. وكذا يكون التخيل الشعري الصحيح.

وما أحلى قول بعض الشعراء:

فعل الأديب إذا خلا بهمومه ... فعل الذباب يرنّ عند فراغه

فتراه يفرك راحتيه ندامةً ... منه ويتبعها بلطم دماغه

لم أورد هذه المقاطيع في الكأس المصورة والذباب وأكثرت منها إلا لأن هذا الموضع من محزات الأدب وغريب المعاني. ولعل هذا القدر ما اجتمع لأحد فيهما.

وأما قوله بدون هذا يباع الحمار، أصل هذا المثل أن رجلا أراد أن يشتري حمارا من آخر يدعى أبا يسار، فجعل يصفه ويبالغ فيه إلى أن قال: تصيد به النعام معقولا فقال له: شاكه أبا يسار، بدون ذا ينفق الحمار. وشاكه معناه قارب أي لا تغل.

قال: وكذلك ورد قوله.

يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم

فاسقني البكر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرّحم

وهذا معنى مخترع لم يسبق إليه، وهو دقيق يكاد لدقته أن يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير شاهد حال مصورة. وساق حكاية جرت في حضرة الرشيد في استخراج معناه، وهي مشهورة.

أقول: وأبو نواس ممن له المعاني التي ظاهرها سهل وباطنها مشكل في غاية الدقة، كقوله:

أما ترى الشمس حلّت الحملا ... وطاب وزن الزمان واعتدلا

وغنت الطير بعد عجمتها ... واستوفت الراح حولها كملا

محل الإشكال فيه واستوفت الراح حولها.

قالوا: من حين عصير الراح، إلى أن تحل الشمس الحمل ما يكون غير ستة أشهر أو ما حولها، فكونه يدعي أن الراح استوفت الحول كاملا غير صحيح، والحول اثنا عشر شهرا. الجواب من وجوه: أحدها وهو أقواها، أن الضمير في حولها لا يعود على الراح، وإنما يعود على الشمس. كأنه قال: واستوفت الراح حول الشمس كاملا.

وثانيهما، أن المراد بالحول هنا إنما هو الغاية والتمام، والمعنى: استوفت الراح بلوغها وصلاحها لأن تستعمل وترشف. وفي هذه المدة ينتهي صلاح الخمرة، وكل شيء بلغ غاية تطلب منه، فقد استوفى حوله. كأنه من: حال عن هيئته إلى هيئة أخرى. وهذا الذي يفهم من كلامه.

وكذا قوله:

ظلت حميّا الكأس تبسطنا ... حتى تهتّك بيننا الستر

في مجلسٍ ضحك السرور به ... عن ناجذيه، وحلّت الخمر

ذكروا في هذا أربعة أوجه: أحدها أن طيب المكان وكمال السرور، أباح حرمتها على عادة الشعراء في مبالغاتهم ثانيها أن يكون آلى على نفسه أن لا يتناول الخمر إلا بعد اجتماعه بمحبوبه، فكان الاجتماع مخرجا من يمينه. كقول امرىء القيس:

حلّت لي الخمر وكنت امرءا ... عن شربها في شغلٍ شاغل

ثالثها يريد بحلت نزلت، من الحلول في المكان.

رابعها: يريد أنهم استحلوها بدخولهم في السكر وذهول عقلهم وكنت وقفت بالديار المصرية على جزء فيه كلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب على قول الشاعر.

بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا

وقد ذكر في قوله: بيض مفارقنا مئتي وجه وثلاثة أوجه، في احتمال معنى هاتين اللفظتين.

وقد وجدت لأبي الحسن الطوسي الفقيه بيتين، يسأل عن معنى الثاني منهما: وهما:

منّينني حينا فلما ... أن مللت من التمني

عرّضن لي بالوصل حتى ... قلت قد، أعرضن عني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015