الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر ". ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن المبارك، أنه قال: "صنفت من ألف جزء جزءاً، ومن نظر في الدفاتر فلم يفلح، فلا أفلح هو أبداً" (?) .
وهيئة هذه الممارسة التي نطالب بها طالب علم الحديث، هي: أن يقوم الطالب بما يشبه التصنيف والتأليف، إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين، أو بالترجمة لرواة كتاب لم يخدم رواته بالترجمة، أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم، أو بجمع أقوال الأئمة وتطبيقاتهم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته.. ونحو ذلك من الموضوعات الكثيرة جداً. والأفضل أن ينوع في طبيعة بحوثه، حتى يستفيد فائدة أعم وأشمل.
وبالطبع لا يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس، خاصة في مرحلة تكوينه العلمي، وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن، للفوائد التي ذكرها الخطيب في كلامه السابق عن الممارسة العملية في علم الحديث.
ولا يمنع ذلك من أن يبتدىء طالب الحديث مشروعاً علمياً كبيراً، من صغر سنه وبدايات طلبه، يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل، ويقضي في ذلك عمراً من عمره، وبشرط أن لا يخرج مشروعه هذا إلا بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة الإفادة، كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده في تأليف كتاب.
بل إني لأشدد في النصح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل، ولا يستخفوا بأنفسهم؛ فقد كان الإمام الزهري يقول للفتيان والشباب: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم" (?) .
ولك في سيرة العلماء قدوة:
فقد بدأ الإمام البخاري تصنيفه للتاريخ الكبير وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وبقي في تصنيفه وتحسينه غالب حياته. أما (صحيحه) فمكث في تصنيفه ستة عشر عاماً.