يقول أبو يوسف القاضي (ت182هـ) : "العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر" (?) .

ويقول أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي: "لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه فلم يشهد جنازته" (?) .فإن كانت هاتان العبارتان حقاً في العلوم جميعها، فهي في علم الحديث أولى أن تقال وأحق. وهذا هو ما قصده الخطيب، عندما ساقها في ذلك السياق.

وللتخصص في كل العلوم معناه، وفي علم الحديث له معناه الخاص به؛ فهو تخصص لا يقبل الانقطاع إلى غيره، مهما طال زمن التفرغ في تحصيله، ومهما ظن طالبه أنه تملا منه وتضلع. لأنه خبرة دقيقة وحاسة لطيفة، لا تدوم إلا مع بقاء الالتصاق بالعلم. وسرعان ما تفسد تلك الخبرة، وتتعطل تلك الحاسة، إذا انقطع الطالب عن العلم فترة يسيرة.

يقول في بيان ذلك عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ) : "إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصرة (?) .

وبلسان أهل عصرنا: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة تاجر العملات، لا يستطيع أن يستفيد ويربح، إلا إذا كان متابعاً لأسواق العملات، دون انقطاع؛ فإذا انقطع يوماً واحداً، أصبح كالجاهل بهذا السوق تماماً، وكأنه لم يكن عليماً به يوماً من الأيام! لأنه لا يستطيع أن يشتري أو يبيع، لعدم علمه باختلاف أسعار العملات الذي يتبدل كل ساعة.

ولذلك لم يجعل الإمام أحمد (ت241هـ) لطلب الحديث زمنا ينتهي عنده، ولم يوقت له فترة يجعلها حده؛ عندما سئل: "إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ قال: حتى يموت (?) .

فإن قيل: قد جاءت عبارات كثيرة في كتب العلم، تدل على ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، أو على ذم إفناء العمر في جمع طرق الأحاديث وتتبع الأسانيد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015