العلوم الرسمية، وطاف حول مجلس كثير من كبار مشايخ وقته في بلاد ما وراء
النهر، فأول من تاب على يده الشيخ خواجه عبيد خليفة مولانا لطف الله خليفة مولانا المخدوم الأعظم
الدهبيدي، ولما لم تظهر عليه آثار الاستقامة أناب ثانياً على يد الشيخ افتخار حين قدومه بسمرقند
وكان من مشايخ سلسلة الشيخ أحمد اليسوي، ثم طرأت على عزيمته هذه الفترة وظهر فيه ما ينافي
طريق الاستقامة فجدد التوبة ثالثاً من غير صنع واختيار على يد الأمير عبد الله البلخي، فكان في
مقام حفظ الحدود أياماً ثم هدم سد تلك التوبة أخيراً، ثم تشرف في المنام بزيارة خواجه بهاء الدين
نقشبند وظهر فيه ميل إلى طريقة أهل الله فصار يتوجه إلى كل طرف يسير حتى وصل إلى ملازمة
الشيخ بابا ولي الكبروي في بلدة كشمير فلازمه وأخذ عنه، وهبت عليه في ملازمته النفحات الربانية
وظهرت فيه الغيبة المعهودة عند هذه الطائفة، ولما مات الشيخ المذكور صار يدور البلاد في الطلب
ومضى عليه زمان السياحة والأخذ حتى حضرت له روح الشيخ عبيد الله الأحرار فعلمه الطريقة
النقشبندية وتم أمره، ثم ذهب إلى ما وراء النهر فأدرك بها الشيخ محمد الأمكنكي، فأجازه الشيخ بعد
ثلاثة أيام ورخصه، فرجع إلى الهند وأقام سنة ببلدة لاهور، واغتنم صحبته فيها كثير من العلماء، ثم
ارتحل منها إلى دار سلطنة الهند دهلي، واختار للاقامة القلعة الفيروزية التي كانت مشتملة على نهر
كبير ومسجد عظيم، فأقام هناك إلى وفاته.
وكان صاحب الأذواق والمواجيد كثير التواضع والانكسار، وكان يجتهد في ستر أحواله وسيرته عن
نظر الأغيار ولا يرى نفسه أهلاً لمقام الإرشاد، فإذا جاءه شخص يطلب الطريقة كان يقول: ليس
عندي شيء من ذلك ينبغي لك أن تطلبه من غيري فإذا لقيت أحداً من هذه الطائفة فنبهني عليه،
وكان بمعزل عن الدعوى، يشتغل بخدمة الزوار واستمالة قلوبهم، ولا يتكلم إلا عن ضرورة إلا في
مسألة مشكلة من الحقائق فكان يوضحها حق الإيضاح لئلا يميل صاحبها عن النهج القويم، وكان يمنع
أصحابه عن القيام تعظيماً له ويعد نفسه كأحد منهم ويحب المساواة معهم في سائر حالاته، وكان يقعد
فوق التراب من غير حائل تواضعاً ومسكنة.
وكان ذا كيفية عجيبة وتصرفات غريبة بحيث إذا وقع نظره على شخص كان يتغير حاله، وكان
يحصل الذوق والشوق والكيفية المعهودة عند هذه الطائفة في أول صحبته، ويجري لطائف الطالبين
بالذكر في أول التلقين، وكان ذلك للكل على سبيل التعميم، وكان على غاية الشفقة على الخلق حتى
أنه قام ليلة في أيام البرد عن فراشه، فلما عاد رأى في لحافه هرة نائمة فلم يرض بايقاظها وتحريكه
إياها وقعد إلى الصبح متحملاً لنكد البرد، وصادفت إقامته في لاهور مجاعة فلم يأكل في تلك المدة
شيئاً، فإذا حضر عنده طعام فرقه وقسمه على الجائعين، ولما خرج من لاهور متوجهاً إلى دهلي رأى
عاجزاً في الطريق فنزل عن دابته وأركبه إياها وصار يمشي متقنعاً لئلا يعرفه أحد، ولما قرب إلى
المنزل أنزله وركب بنفسه لئلا يطلع عليه أحد.
وكان غاية في رؤية قصور الأحوال واتهام النفس، لا يميز نفسه عن العامة فضلاً عن أصحابه، قيل
كان في جواره شاب يرتكب كل شيء من الفسق فكان يتحمله مع اطلاعه عليه فسعى خواجه حسام
الدين الدهلوي أحد أصحابه في دفعه وتأديبه إلى الحكام فأخذوه وحبسوه، فلما اطلع عليه غضب على
صاحبه وقال: لم فعلت كذا؟ قال: يا سيدي! إنه فاسق لا يبالي يرتكب كل شيء، فقال: أواه لما كنتم
من أهل الصلاح والتقوى رأيتم فسقه وإلا فنحن لا نعرف الفرق بيننا وبينه فكيف نترك أنفسنا
ونسعى به إلى الحكام! ثم سعى في تخليصه وإخراجه من الحبس فأخرجوه، فتاب وصار من
الصلحاء، وكان - رحمه الله - إذا صدرت زلة من أصحابه يقول: إن هذا من زلاتنا ظهرت منهم
بطريق الانعكاس، وكان يختار الأحوط في العبادات والمعاملات، ولذلك كان يقرأ الفاتحة خلف الإمام
في الصلاة في ابتداء حاله لكثرة الأحاديث الواردة في قراءتها وقوة دليلها، وهذه المذكورات نبذة من
شمائله وقطرة من بحر خصائصه، ولذلك ترى أن الناس انتفعوا به في مدة قليلة، وما انتشرت هذه
السلسلة المباركة في الهند إلا منه رضي الله عنه، وما كان أحد يعرفها قبله، وكان الشيخ محمد بن
فضل الله البرهانبوري يقول: إنه كان معدوم النظير في قوة الإرشاد، فإنه أرشد ثلاث سنين أو أربع،
وفي تلك