ومع ما ذكرناه آنفاً من أن تدرّج النقص، الذي هو سنةٌ لا تتخلّف في مثل هذه الأمور عادةً، يُلْزِمُ بأن لا نتصوَّرَهُ نقصاً يقضي على ملامح ازدهاره السابقة فجْأةً، وأنه لابُدّ من حفاظِه على كثيرٍ من خصائص العصر الذهبيّ للسنّة فإننا سَنُعَزِّزُ هذا المعنى من وَجْهٍ آخر.

فقد سبق أن قرّرنا بأن علماء الأمّة كانوا ينتقلون بالسنة من مرحلةٍ إلى مرحلة حَسَبَ ما كانت تبدو لهم حاجاتُ السنّة في عصرهم، وما هي مجالات خدمتها الضروريّة التي يجب أن يُبَادَرَ إلى القيام بها، وما هي الأخطار التي يُخشى على السنة منها في زمنهم ليُسارعوا إلى دَفْعِها.

وفي القرن الرابع: لاشك أن دواعي نقص حفظ الصدور قد ازدادت، بتدوين السنة كُلّها، مما يجعل الاعتماد على المكتوب أيسر وأقرب. كما أن زيادة طول الأسانيد وتشعُّبِها واختلافِ رواتها قد أدّى إلى تعسُّرِ الحفظ أيضاً. فاجتمع لنقص حفظ الصدور سببان: الاطمئنانُ على السنة بعدم ضياع شيءٍ منها، وصعوبةُ حفظها مع امتداد زمن الرواية. ولذلك فقد كان عدمُ الحفظ في الصدور هو الخَلَلَ الذي نصّ عليه ابن حبان، مما أرّخ لظهوره في طلبة العلم في زمنه.

ومع وجود هذا الخلل (نقصُ حفظ الصدور) إلاّ أنه لم يشمل أئمةَ النقد في هذا العصر، مع أنهم هُمْ أنفسهم واقعون تحت ضغط سَبَبَيْ نقص الحفظ الآنفَيْنِ. ذلك أن أئمة النقد هؤلاء قد عرفوا أن السنّة لم تزل في حاجةٍ إلى خدمة ضروريّة، تتمِّمُ خدمةَ علماء القرون السابقة، وهذه الخدمة لا يقوم بها إلا من اكتملت فيه آلات الاجتهاد في علوم الحديث، والتي من أهمِّها إحاطةُ حفظ الصدور بالمرويّات. ولذلك فقد استطاعوا أن يُقَاوموا سببَ نقصِ الحفظ، وأن يستمرّوا على نهج أسلافهم من أهل القرن الثالث فيه، بل أن يحاولوا مقاومةَ تلك الظاهرة في أهل جيلهم، كما سبق عن ابن حبان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015