من بين أنواع علوم الحديث ما هو أكثر تأثرا بمستجدات عصر ما بعد الرواية، وهو الجرح والتعديل وطرق التحمل والأداء، لذا تجد هذين النوعين في كتب المصطلح مدخلا واسعا لدخول علماء الفقه والأصول، بل تلحظ المتأخرين يميلون إلى ترجيح بعض أقوالهم، وذلك نظرا لكون هذين الموضوعين مما تناولوه وانشغلوا به نظريا وعمليا.
أما الجرح والتعديل فمن باب مسألة الشهادة التي انشغل المتأخرون من الفقهاء وأئمة الأصول بتحرير ما يتصل بعدالة الشاهد وما يضرها من خلل سلوكي وعقدي، وأما طرق التحمل والأداء فمن خلال تطبيقهم لها في نظمهم التعليمية التي تطورت في عصرهم، حتى وقع لهم فيها تساهل في تطبيق شروط النقاد في أسانيد الكتب كما سبق ذلك عن الإمام البيهقي وغيره.
وفي ضوء هذا الواقع فإن كتب الحديث والمصطلح، تحمل في طياتها جهود المحدثين في مجال علوم الحديث، مع تحديد دقيق لأطوار هذه الجهود المرحلية، وعوامل تطورها وتجددها، وآثارها في تكوينهم وتفكيرهم وانشغالاتهم العلمية، لكن يتوقف معرفة ذلك كله على دراسة تحليلية ومنهجية لتلك الكتب والمصطلحات، بعيدا عن العواطف وظواهر التقديس التي يتقيد بها كثير من الباحثين في هذا العصر؛ إما لضيق وقتهم بسبب الانشغال بأمور أخرى، أو لاقتناعهم بأن هذا العلم قد نضج واحترق ولم يترك السابق للاحقه شيئا، أو لأنهم لم يستوعبوا علوم الحديث كما ينبغي، بحيث يتخيل إليهم أن كل ما تضمه كتب المصطلح من القضايا مسلمة لدى المحدثين النقاد.
من خلال قراءة منهجية لكتب المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه تتبين الأمور الآتية:
1 - أن المتأخرين أبدعوا في حفظ كتب المتقدمين ودواوينهم، وحمايتها من جميع أنواع التحريف والتصحيف والانتحال، وأما المتقدمون فانصبت عنايتهم على رواية الحديث، وأبدع نقادهم في جانب النقد وكشف أخطاء الرواة وأوهامهم. وأن الجميع قاموا بحفظ السنة والذب عنها، كل حسب مستجدات عصره.