وكذلك لما ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر والتجهم لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران (?)، ولو خرجوا إلى كفر محضٍ لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين.
وأيضاً فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) فيه إنفاذ الوعيد، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه؛ لأن الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين.
وأيضاً فإن ظاهر الحديث (ستفترق أمتي ... ) يقتضي أن هذه الفرق من الأمة، وإلا فلو خرجوا إلى الكفر لم يعدوا منها البتة.
وقد أخرج عبد الله بن المبارك الجهمية من الفرق الاثنتين وسبعين وقال: (أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) (?) وكان يقول: (إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية) (?). قال ابن تيمية: (وهذا الذي قاله اتبعه عليه طوائف من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ... ) (?).
وقال آخرون من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين وسبعين فرقة (?).
فمن أخرج الجهمية لم يكفر الفرق الاثنتين وسبعين، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق العصاة، ومن أدخل الجهمية فهم على قولين (?):
الأول: تكفير الاثنتين وسبعين فرقة، وهو قول بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين. أما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -الذين يقدمون علياً على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم جميعاً- ونحو ذلك.
الثاني: عدم تكفير أحدٍ من الفرق الاثنتين وسبعين إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، فكما لا يكفر أحد بذنب، كذلك لا يكفر أحدٌ ببدعة.
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة، المنكرين للصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم، ولا يرى، ولا يباين خلقه، ولا علم له، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، وأن القرآن مخلوق ...
وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاعٌ عند أحمد وغيره، وأما القدرية النافون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال (?).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (?): (وفصل الخطاب بذكر أصلين:
أحدهما: أن يُعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً، فإن الله منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمنٌ به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافقٌ مستخفٍ بالكفر ...
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً، وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.