ـ وضحت أن الإجماع ينقسم باعتبار ذاته إلى إجماع صريح، وإجماع سكوتي، وباعتبار أهله ينقسم إلى إجماع عامة، كالإجماع على المعلوم بالضرورة من الدين ـ وإجماع خاصة، وباعتبار عصره ينقسم إلى إجماع الصحابة، وإجماع من بعدهم، وباعتبار نقله إلينا ينقسم إلى إجماع ينقل بطريق التواتر، وإجماع ينقل بطريق الآحاد، وباعتبار قوته ينقسم إلى إجماع قطعي، وإجماع ظني.
ثم فصلت القول في تقسيم الإجماع باعتبار ذاته:
مبيناً أن الإجماع الصريح: هو الذي أبدى فيه جميع المجتهدين آراءهم بصراحة، أو صرح بعضهم بالقول، وفعل البقية مقتضاه، فهذا حجة قاطعة بلا نزاع. ومن الإجماع الصريح ـ على رأي جمهور الأصوليين ـ ما إذا اتفق المجتهدون في الفعل بما يدل على حكمه، وهو ما يسمى بالإجماع الفعلي الصريح.
ـ وأما الإجماع السكوتي: فهذا أن يعمل بعض المجتهدين عملاً، أو يبدي رأياً في مسألة اجتهادية قبل استقرار المذاهب فيها، ويسكت باقي المجتهدين عن إبداء رأيه بالموافقة أو بالمخالفة، بعد علمهم، سكوتاً مجرداً عن أمارات الرضا والسخط، مع مضي زمن يكفي للبحث والنظر. فلا يسمى إجماعاً سكوتياً إلا ما توافر فيه هذه القيود المذكورة. ومثله الإجماع الاستقرائي: وهو أن تستقرأ أقوال العلماء في مسألة فلا يعلم خلافٌ فيها.
وقد ذكرت أن العلماء اختلفوا في حجية الإجماع السكوتي، وجمهورهم على الاحتجاج به، وبينت سبب الخلاف، وحررت محل النزاع، ثم ذكرت أدلة الجمهور مفصلة. وأوضحت بعد ذلك أن هذا النوع من الإجماعات هو الذي يغلب وجوده ونقله بين العلماء، أما الإجماع الذي يذكره الأصوليون بالشروط الموجودة في كتبهم فهذا يكاد يستحيل وقوعه بعد عصر الصحابة، إن لم يكن غيرَ موجود في عصرهم، والقول به يفضي إلى عدم الانتفاع بأصل الإجماع، هذا فضلاً عن كونه يفتح باباً لضعاف النفوس الذين يريدون هدم أصل الإجماع، وإغلاق بابه، بأن يطبقوا تلك الشروط على ما يحكيه أهل العلم من الإجماع، فلا تنطبق عليه، فيعودوا على جملة عظيمة من المسائل المجمع عليها بالنقض.
ـ بينت أهم الشروط التي ذكرها أهل العلم في الإجماع، وهي كالتالي:
الشرط الأول: أن يكون الإجماع عن مستند، والمستند هو الدليل الذي اعتمده المجتهدون فيما أجمعوا عليه. ولم يخالف في هذا الشرط إلا طائفة شاذة كما يقول الآمدي. ويتصل بهذا الشرط مسألتان:
الأولى: نوع الدليل الذي يكون مستنداً للإجماع. فمن العلماء من يرى أنه لا يكون إلا من الكتاب والسنة، ومنهم من يرى أنه يمكن أن يستند إلى الاجتهاد أو القياس. وقد انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية للقول الأول, مبينًا أنه لا يوجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يخفى النص على بعض الناس، فيظن أن الإجماع قد انعقد على غير نص من اجتهاد أو قياس، وقد ذكرت أن هذا النزاع يمكن إرجاعه إلى اللفظ، لأن كلاً من الفريقين أخبر بحاله، وتكلم بحسب ما عنده من العلم، مع اتفاقهم جميعاً على ضرورة استناد الإجماع إلى دليل.
الثانية: أنه يمكن الاستغناء بنقل الإجماع الصحيح عن نقل دليله.
الشرط الثاني: أن يكون المجمعون من العلماء المجتهدين. ويكفي في ذلك الاجتهاد الجزئي، لأن اشتراط الاجتهاد المطلق يؤدي إلى تعذر الإجماع، لندرة وجود المجتهد المطلق.
والمعتبر في كل مسألة من له فيها أثر من أهل العلم المجتهدين.
الشرط الثالث: أن يكون الإجماع صادراً من جميع مجتهدي العصر، فإذا خالف أحدهم لم يعتد بالإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون المجمعون أحياء موجودين، فالمستقبل لا ينتظر والماضي لا يعتبر.