ولإثبات ذلك عمليا، وجدت من الضروري تقديم قضايا ومباحث تتسم بالجدة، ومعالجتها من خلال نظرية التقريب والتغليب، وتعبيرها بمعيارها. فجاء الباب الثالث، ليبرهن على فعالية هذه النظرية، وعلى قيمتها الأصولية المنهجية، وعلى أنها أصل من أصول التشريع الإسلامي، والتفكير الإسلامي، والتقويم الإسلامي.
وفي ثنايا هذه الغايات الأساسية للبحث، يسر الله تعالى أيضا تحقيق عدد من المسائل العلمية: الفقهية، الأصولية، والتفسيرية، والحديثية، وغيرها.
ومن هذه المسائل: مزيد من التوضيح والضبط لبعض المصطلحات كالعلم، واليقين، والخوف.
ومنها: تحقيق مذاهب العلماء في مسألة (خبر الواحد ماذا يفيد؟) وتحرير محل النزاع فيها، مما يسهل حسها وإنهاء النزاع فيها أو تضييقه على الأقل، وهو ما تحقق فعلا.
ومنها: البحث المفصل لمسألة تصويب المجتهدين، والرد الحاسم على القائلين بأن كل مجتهد مصيب، وبيان ما يفضي إليه الغلو في هذه البدعة ..
ومنها: محاولة الإجابة عن سر وجود الظنية والاحتمال في أحكام الدين ومعانيه.
ومنها: نصرة الرأي القائل بأن ولد الزنى يلحق بالزاني، إذا أقر به، ولم ينازعه فيه صاحب فراش صحيح، مع بيان المعنى الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش) وهو رأي مخالف لما عليه الجمهور، ولكني وجدت أن الأدلة والقواعد، تحتم نصرته والقول به، ففعلت.
وأما الباب الثالث، فأحسب أن الجدة هي الأصل فيه، وهي الغالبة عليه وعلى مباحثه واستنتاجاته وتحقيقاته. وقد تميز هذا الباب بالرد والابطال لعدد من الآراء الرائجة عند القدماء والمحدثين، مثل كون القرآن الكريم ذم الكثرة والأكثرية ومدح القلة والأقلية، ومثل الزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان يستشير الصحابة تطييبا لخواطرهم ثم كان يفعل ما يراه دون اعتبار لأكثريتهم ولا لمجموعهم، وأن الخلفاء الراشدين وخاصة أبا بكر وعمر، أمضيا آراءهما على خلاف سائر الصحابة، ومثل الزعم بأن الخلافة تنعقد بالواحد والاثنين، وبمن حضر .. ومثل الاعتقاد بأن الغاية الشريفة المشروعة لا يمكن أن تسوغ بحال من الأحوال استعمال وسيلة غير مشروعة.
هذه بعض التحقيقات والثمرات، التي أفضى إليها هذا البحث بفضل نظرية التقريب والتغليب، وبفضل تطبيقها والالتزام بمقتضياتها.
وقد التزمت في هذا البحث بمبدأ أصبحت أرى الالتزام به والإلحاح عليه، أمرا في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهو طرد القواعد والموازين العلمية، وتقبل نتائجها وثمراتها مهما تكن دون تهيب ولا تعصب، ولا آراء مسبقة، ولا خوف من أحد.
وقد يبدو هذا الكلام بدهيا مسلما، ولكني أعلم يقينا أن الالتزام به قليل، وأن الوفاء له ضعيف، وخاصة عندما يتعارض مع العصبيات والأهواء. وهذا سبب كبير من أسباب التعثر والتخبط العلمي والانحراف العلمي.
العلم هو الخضوع للقواعد العلمية المقررة، والتسليم للموازين العلمية المعتمدة، الخضوع لها ابتداء وانتهاء. وبدون التمسك بهذا المبدأ، بصرامة وتشدد، سيبقى العلم عرضة للغش والتلاعب، وعرضة للتطويع والتوجيه، وعرضة للخضوع لمؤثرات غير علمية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
الخميس خامس ذي القعدة 1412 موافق سابع مايو 1992م.