¤أحمد الريسوني£بدون¥مطبعة مصعب - المغرب¨الأولى¢1994م€ثقافة عامة¶دراسات إسلامية
الخاتمة
لقد عشت مع هذا البحث - مع قضيته وقضاياه الفرعية - في مراحل وأطوار، كان لكل منها سمته الخاصة وطعمه الخاص.
عشت معه مرحلة التأمل في بعض الجزئيات، ومحاولة إدراك تفسيراتها وعللها. تتمثل هذه الجزئيات في أحكام فقهية ومقولات أصولية، وفي أقوال وآراء عند المفسرين وعند المحدثين، وتتمثل أحيانا حتى في بعض المنصوصات الشرعية. كنت أعمل على أن أجد التفسير المقنع والجواب الشافي لكل مسألة جزئية على حدتها. فتارة أجد ذلك وتارة أجد بعضه، وتارة ألتزم بما هو سائد على مضض وتشوف إلى ما هو أفضل وأكمل.
ثم عشت معه مرحلة الربط بين الجزئيات، واكتشاف العناصر المشتركة بين عدد من الجزئيات بدأ ذلك عفويا، ولكن التزايد، مع الاستمرار، ولدا عندي نوعا من الاهتمام بالتفسير العام المشترك لتلك الجزئيات الفقهية والأصولية، والحديثية والتفسيرية، التي كنت أنشغل بتفسيرها كلا على حدة.
هذه المرحلة أفضت بي - بتلقائية، وبقصد - إلى مرحلة التشكل والتخلق لنظرية التقريب والتغليب، فقد وقع من التراكم الكمي والنوعي للمسائل الجزئية، ولتفسيراتها المتشابهة والمترابطة، ولو اختلفت الظواهر والأشكال، وقع من هذا التراكم ما أحدث عندي طفرة في الفهم والاكتشاف. وعند ذلك عزمت أن أخوض في هذا الموضوع.
ثم دخلت في طور التتبع والتنقيب والتأمل، وهو طور المواجهة المكثفة لقضايا الموضوع واشكالاته.
ثم جاءت مرحلة الاستخلاص والاستنساخ والتحرير ...
وأخيرا عشت مع هذا البحث قارئا مراجعا. وشعرت - وأنا أقرأه - أن لدي إضافات واستدراكات، وشروحا وتوضيحات، ولكن صرفني عن هذا كله أن هذه أمور لا تنتهي. ثم إن القارئ المتخصص، وأيضا القارئ المتفحص، يغنيه ما قيل عما يمكن أن يضاف ويوسع، خصوصا وأني أعتقد أن البحث قد أدى رسالته الأساسية وحقق غايته الكبرى، وأعني بها إبراز نظرية التقريب والتغليب.
والحقيقة أن إبراز هذه النظرية وكشف معالمها، وبيان وجودها وسريانها في العلوم الإسلامية، قد تم في الباب الأول بفصوله الثلاثة، وتطبيقاته وأمثلته الكثيرة والمتنوعة. وأحسب أن قارئ هذا الباب - والمدخل قبله - يخرج بقناعة ثابتة وفكرة واضحة، عن العمل بالتقريب والتغليب، بمختلف أشكاله وصوره، عند علمائنا، وأن ذلك جار عندهم في انسجام وتكامل، ومنتظم عندهم في نظام علمي منهجي واحد. لكن هذا لا يسد بعض الثغرات، ولا يرفع عددا من الإشكالات ..
فهذه النظرية الموصوفة بالشرعية الإسلامية، تحتاج إلى أدلة شرعية تشهد لصحتها وشرعيتها، ولابد لهذه الأدلة أن تكون دالة على المقصود دلالة واضحة قطعية، لأن ما يبنى عليها ليس حكما جزئيا أو قاعدة محدودة الأثر، بل تنبني عليها نظرية كبرى، تتحكم في تقرير ما لا يحصى من الأحكام والمعاني الشرعية، وتتحكم في تفسيرها وترتيبها وتطبيقها. فمسألة الأدلة القطعية الواضحة على هذه النظرية، هي مسألة حياة أو موت لها. لأجل هذا، كان الفصل المخصص لأدلة النظرية. ولأجل هذا أيضا كان الاستطراد المطول مع الإشكالات والاعتراضات التي قد تثار في وجه النظرية كلا أو جزءا.
على أن خدمة قدمتها لهذه النظرية، هي المتمثلة في تحرير فصل خاص عن (الضوابط العامة للعمل بالتقريب والتغليب). ولاشك أن الضوابط الستة التي قدمتها، تتسع لكثير من الاستدراك والتفصيل والتنقيح. ولكنها على كل حال لبنة أصولية، كان موضعها شاغرا فملأته. ثم إن هذه الضوابط تجعل من نظرية التقريب والتغليب آلة منهجية مكتملة وجاهزة للاستعمال والإنتاج، في أمان واطمئنان.