¤وهبة الزحيلي£بدون¥مؤسسة الرسالة - بيروت¨الرابعة¢1405هـ€أصول فقه¶ضرورات وضرر
خاتمة البحث
هذه هي أهم الأحكام الاستثنائية التي تتطلبها ضرورات الناس وحاجياتهم، مما يستوجب رفع المسؤولية الأخروية أو عدم ترتب الإثم والعقاب في الدار الآخرة، أو إباحة الفعل المحظور، أو التيسير على الناس في أداء الواجبات الدينية حسبما يتلاءم ذلك مع واقع الحياة وظروف الإنسان المختلفة.
وهذه الاستثناءات التشريعية هي المقصودة في قولنا: المعنى الأعم للضرورة الذي يشمل الحاجة، وهو الذي يتبادر فهمه إلى ذهن الناس، فلا يسألون عادة عن حكم الأوضاع الاستثنائية النادرة جداً، كما في حالة ضرورة المخمصة المستجيزة لأكل الميتة ونحوها من المحرمات، وإنما يهتمون بمعرفة أحكام الأوضاع الخاصة التي يتكرر وقوعها حسب الظروف المعيشية الحاضرة راجين من وراء سؤالهم بيان الترخيصات الشرعية، والاستفادة من محاولات الفقهاء في التخفيف عن الناس بما أنتجته عبقرياتهم بحيث لا يصادمون صراحة النصوص التي تحرم المحظورات وتنه عن المفاسد والآثام.
ومن خلال هذا البحث يتبين أن نظرية الضرورة الشرعية تشمل كل جوانب الأحكام الشرعية، سواء في العبادات أو الالتزامات والعقود والمعاملات، أو الجرائم والعقوبات (نظرية الشبهة في الحدود، وامتناع العقاب على جريمة وقعت خطأ أو نسياناً بإكراه) أو في القرارات الإدارية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب.
وإطلاع كل إنسان على هذا البحث يضيف إليه دليلاً جديداً على أن الشريعة الإسلامية الخالدة شريعة الحياة والواقع والفطرة، وأنها صالحة للتطبيق والعمل بها في كل زمان ومكان فلا يضيق بها أحد، ولا يحس امرؤ بأنها غلّ على النفوس أو قيد يمنع من التطور والحضارة، أو مسايرة ركب الحياة، أو الانطلاق بحرية كاملة في كل الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
بل إن هذا المعنى لي بجديد في الحقيقة إذا حسنت نية الذين يريدون تطبيق الأحكام الإسلامية، وحاولوا وضعها قيد التجربة والتنفيذ، وفي ميدان البحث والدرس والتثقيف، والتاريخ أصدق شاهد على ما نقول، فقد ظلت هذه الشريعة عشرات القرون الزمنية لها الحاكمية المطلقة في مجالات التشريع والتنفيذ والتخطيط تلبي مصالح الناس، وتحقق تطلعاتهم وأمنياتهم إلى مستقبل حافل بالأمجاد، ولكن مع الاستعانة بالعلماء الأمناء المخلصين المتفتحة قرائحهم، المتجاوبة اجتهاداتهم مع واقع العصر، دون أن يعجزوا في حل مشكلة، أو يضيقوا ذرعاً في مصادر الشريعة وأصولها ومبادئها العامة؛ لأن شرع الله ملازم للمصلحة.
قال الشاطبي: لقد ثبت أن الشارع قد قصد التشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية؛ وذلك على وجه لا يختل لها به النظام، لا بحسب الكل؛ ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات، أو الحاجيات؛ أو التحسينات.
والله تعالى نسأل الرشد والهداية والتزام جادة الاستقامة والتوفيق في بيان محامد الإسلام ومحاسن شرعة الله والبعد عن الأهواء وأتباع التقليد؛ وعدم التماس الأحكام والحلول من أعداء الله؛ أو محاكاة فعل الجاهلين:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.