الحجاب

¤أبو الأعلي المودودي£بدون¥مؤسسة الرسالة - بيروت¨بدون¢1398هـ€فقه¶حجاب وتبرج

خاتمة القول

هذه هي نقطة القصد والموقف الوسط الذي أشد ما تفتقر إليه الدنيا لرقيها وهنائها وصلاحها الخلقي. وهي – كما ذكرت في بدء هذا الكتاب – لا تزال تخبط خبط عشواء في تعيين منزلة المرأة – أي منزلة النصف الكامل من كيان العالم الإنساني – في التمدن، منذ آلاف من السنين. فتميل تارة إلى الإفراط وأخرى إلى التفريط. وقد أضرت بها هاتان النزعتان المتطرفتان ضرراً قد شهدت به التجارب والمشاهدات، أما ما بين هذين الطرفين المتناقضين من الموقف الوسط المعتدل الذي يوافق الفطرة والعقل؛ ويلائم المصالح الإنسانية كل الملاءمة، فهو الذي قد جاء به الإسلام. ولكن المؤسف أنه قد قامت في هذا العصر الأخير حواجز بعضها من وراء بعض، تحول دون فهم هذا الطريق المستقيم وتقديره حق قدره.

أهم هذا الحواجز أن الإنسان في عصرنا هذا قد ابتلي في بصيرته بداء كاليرقان. وأصيب المستغربون من أهل الشرق بنوع أخوف من هذا الداء، أسميه اليرقان الأبيض. ومعذرة إلى الأخوان والأصدقاء لصراحتي هذه. ولكنها حقيقة لا تنكر، والحقيقة يجب ألا يمنع من إعلانها مداراة. إن من الحق الواقع أنه لم يأت الإسلام بحكم أو مسألة تخالف الحقائق العلمية الثابتة. بل الأصح أن كل ما هو حقيقة علمية في هذه الدنيا، هو عين الإسلام. ولكن هذا الواقع لا تبصره إلا عين مجردة ترى الأشياء بلونها الحقيقي، لا بلون المنظار، ولا تدركه إلا نظرة واسعة ترى كل أمر من جميع نواحيه لا من ناحية واحدة، ولا يقبله إلا قلب ربح وفطرة سليمة تسلم بالحقائق كما هي، وبدل أن تجعلها تابعة لأهواء النفس ونوازعها، تجعل أهواء النفس تابعة لها. وأما بدون هذه الصفات، فلا يفيد حتى العلم والعرفان مهما زخر عبابه واستفاض. ذلك بأن العين الملونة لن تبصر شيئاً إلا بلون المنظار الذي يغشاها، وأن النظرة المحدودة لن تنفذ من المسائل والشؤون إلا إلى النواحي التي تستقبل وجهتها. ثم إن الحقائق إن خلصت إلى باطن الإنسان في صورتها الحقيقية، على الرغم من تلك الموانع كلها، فهناك ضيق الذرع واعوجاج الطبع يعمل فيها عمله، ويكرهها على أن تخضع لدواعي النفس وتطاوع ميولها ونزعاتها. وإن هي لم تطاولها ولم تخضع لها، نبذها وراء ظهره، مع علمه بأنها حقائق، وراح يتبع هواه ومن البديهي أنه إذا ابتلي الإنسان بهذا الداء العياء، فلا يهديه شيء من العلم والتجربة والمشاهدة سواء السبيل، ومن غير الممكن أبداً لمثل هذا المريض أن يفهم حكماً من أحكام الإسلام فهماً صحيحاً. لأن الإسلام دين الفطرة. بل هو الفطرة بعينها. ولم يتعذر فهم الإسلام على دنيا الغرب إلا بسبب إصابتها بهذا الداء. فكل ما عندها من (العلم) [المراد بهذا العلم هو علم الحقيقة لا النتائج المستخرجة من النظريات والحقائق] هو برمته إسلام. ولكن بصرها متلوّن. وإن تلوّن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015