وإذا تبين ذلك أفاد هذا ألا يعجب العبد بعمله، بل يشهد نعم الله عليه، وإحسانه إليه في العمل، وأنه لا يستكثر العمل، فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يرحمه الله ويعف عنه ويتفضل عليه، لم يستحق به شيئاً، وأنه لا يكلف من العمل ما لا يطيق ظاناً أنه يزداد بذلك أجره، كما يزداد أجر الأجير الذي يعمل فوق طاقته فإن ذلك يضره، إذ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وأحب العمل ما داوم عليه صاحبه، فإن الأعمال بالخواتيم، بخلاف عمل الأجراء في الدنيا، فإن الأجرة تتقسط على المنفعة، فإذا عمل بعض العمل استحق من الأجرة بقدر ما عمل ولو لم يعمل إلا قليلا. فمن ختم له بخير استحق الثواب، وكفر الله بتوبته سيئته ومن ختم له بكفر أحبطت ردته حسناته، فلهذا كان العمل الذي داوم عليه صاحبه إلى الموت خيراً ممن أعطى قليلا ثم أكدى وكلف نفسه ما لا يطيق، كما يفعله كثير من العمال.
فلابد من العمل المأمور به، ولا بد من رجاء رحمة الله وعفوه وفضله، وشهود العبد لتقصيره، ولفقره إلى فضل ربه، وإحسان ربه إليه.
وقد قال سفيان بن عيينة وغيره: (كانوا يقولون: ينجون من النار بالعفو، ويدخلون الجنة بالرحمة، ويتقاسمون المنازل بالأعمال) فنبه على أن مقادير الدرجات في الجنة تكون بالأعمال وأن نفس الدخول هو الرحمة، فإن اله قد يدخل الجنة من ينشئه لها في الدار الآخرة بخلاف النار، فإنه أقسم أن يملأها من إبليس وأتباعه.
ثالثاً: اتفاق السلف وأهل السنة على مفهوم واحد للكسب، وتبين أن الغموض الذي اكتنف تعريف الأشعري للكسب والذي سبب له اتهامات عديدة، كان سببه:
أولاً: متابعة الأشعري للسلف الأوائل حيث أنه لم يثبت عنهم عند الأشعري أنهم خاضوا في مثل هذه المسألة الدقيقة فلم يثبت أنهم نفوا تأثير قدرة الإنسان في أفعاله بل سكتوا عن الكلام فيها جملة وتفصيلا فوسع الأشعري السكوت عن الكلام فيها.
ثانياً: انتقال الأشعري من عقيدة المعتزلة إلى عقيدة السلف جعله يتحفظ من الخوض في مسائل خاضت فيها المعتزلة، وإن صح بعضها – لأن السلف يكرهون إحداث أمور لم تكن قد حدث فيها الكلام – كقضية تأثير قدرة العبد في أفعاله – وحرص الأشعري على تنقية نفسه مما علق فيها من سمعة الانتماء إلى المعتزلة، فرض عليه السكوت وعدم النفي لقدرة إحداث العبد لأفعاله بإذن الله. أو أنه نفى ما ذهبت إليه المعتزلة من القول بإطلاق قدرة العبد بالأحداث. فعلى الرأيين لم يخالف الأشعري العقيدة الحقة.
ومما يؤكد ما ذهب إليه الأشعري، ما ذهب إليه الإمام الجويني وهو في مدرسة الأشعري.
رابعاً: توسط مدرسة السلف وأهل السنة بين الجبر وحرية الاختيار. فلا هم جبرية خالصة ولا هم مفوضون كل التفويض، هذا الموقف الوسطي صبغهم بصبغة الاعتدال والاتزان حيث أنهم أصابوا في غالب استدلالاتهم بآيات القرآن والسنة والأدلة العقلية فيما راموا إثباته من المسائل العقدية، أو نفيه عنها .. ولهذا جنبوا القرآن والسنة الاختلاف وتضارب بعضه ببعض، وأبقوا للمجتمع مسئوليته التي أناطها الشارع به، فهو مأمور أن يعمل ويكد ويتقدم ويتطور وأنه سيوفق، أما أن آمن بأنه مجبور لا حول له ولا طول، وسلم للأمر الواقع فإنه حتماً مقضياً سيتأخر ويسقط تحت أقدام الآخرين وحينئذ لا يلوم إلا نفسه والله لم يأمره بالخنوع والانطواء بل أمره بالانطلاق والعمل، فإنه إن حوصر وهذه حاله فهذا من إبتلآت خالقه فعليه أن يصبر ويسلم ويعمل جاهداً للتخلص بالعودة إلى الله. فهكذا الإنسان لا هو مجبور مقهور على فعله، ولا هو مفوض مسيب في فعله بل له وجود بين هذين الأمرين فعليه ألا ينسى موطنه فيضل الطريق إما بالإفراط أو التفريط وكلاهما مرض عضال له مثالبه على الفرد والأمة.
خامساً: