لا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح، كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء، وليس الجزاء من الله – سبحانه – على سبيل المعاوضة والمقابلة، كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا، فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة، إن زاد زاد أجرته، وإن نقص نقص أجرته، وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن، فنفى – صلى الله عليه وسلم – أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة، والمقابلة والمعادلة، وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا، وهذا غلط من وجوه:
الأول: أن الله – تعالى – ليس محتاجاً إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره، بل هو سبحانه كما قال في الحديث الصحيح: (إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، والعباد إنما يعملون لأنفسهم، كما قال تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا}.
وأما العباد فإنهم محتاجون إلى من يستعملون لجلب منفعة أو دفع مضرة، ويعطونه أجرة نفعه لهم.
الثاني: أن الله هو الذي مَن على العامل: بأن خلقه أولاً وأحياه ورزقه، ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل إليه الكتب، ويسر له العمل، وحبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره، فكيف يتصور أن يكون للعبد على الله عوض وهو الذي خلقه وأحدثه، وأنعم على العبد به؟! وهل تكون إحدى نعمتيه عوضاً عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما؟!
الثالث: أن عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلاً له ومعادلاً حتى يكون عوضاً، بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل.
الرابع: أن العبد قد ينعم ويمتع في الدنيا بما أنعم الله به عليه، مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة، وإذا كان كذلك لم يبالغوا في الاجتهاد مبالغة من يضره الاجتهاد، كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وزال عنهم العجب، وشهدوا إحسان الله بالعمل.
الخامس: أن العباد لابد لهم من سيئات، ولابد في حياتهم من تقصير، فلولا عفو الله لهم عن السيئات، وتقبله أحسن ما عملوا – لما استحقوا ثواباً، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – (من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب). ولهذا قال في الحديث لما قيل له ولا أنت يا رسول الله؟! قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه). فتبين بهذا الحديث أنه لابد من عفو الله وتجاوزه عن العبد، وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}.