أما الاحتجاج بعمل الصحابة في خلاف الحديث، فقد فصَّلنا القول في ذلك وانتهينا إلى أن الحجة على الناس هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، ولا حجة في قول أحد غيره ولا عمله سواء كان من الصحابة أو الفقهاء أو غيرهم من الناس، ولم يتعبدنا الله إلا بطاعته وطاعة رسوله فقط، وإذن فمخالفة الصحابي ـ أو كبار الصحابة ـ للحديث ـ سواء كان هو الذي رواه أو غيره ـ يجب حملها على عدم علمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لما علم الحديث ترك ذلك العمل وأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به بل وحدَّث به أيضاً.

أما مخالفة الحديث للقياس فلا شك أن الأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الواجب وترك القياس، وليس لنا إلا التسليم لذلك وإلا وقعنا في مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي مخالفة الحديث للأصول العامة للشريعة المعلومة لدى الكافة ما يكفي لرده على راويه، واتهامه بالوهم والخطأ فيما يرويه، وذلك أولى الأمرين، لأن شريعة الله لا تتناقض ولا تختلف، وهنا يجب أن يُعْلَمَ أننا نقصد بأصول الشريعة تلك المبادئ العامة التي بنيت عليها الشريعة والتي لا يمكن أن تُنْسَخ أو تتغير، وتلك الأصول إذا جاء حديث يناقضها لم نقبله لأنه قطعاً ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من تخليط الرواة.

أما المقياس السابع والأخير فهو منظور فيه إلى طبيعة ورود الحديث والملابسات المحيطة به والمعنى الذي يؤديه، فإذا كان يحمل حكماً يحتاج إليه الناس جميعاً فالطبيعي أن ينقله جمع كثير، وإذا كان حكماً ليس كالأول فلا مانع أن ينقله العدد القليل، فإذا جاء حديث يحتاج إلى ما فيه الناس كلهم كان الطبيعي أن ينقله عدد كبير فإذا نقله الواحد كان دليلاً على زيافته، هذه دعوى أصحاب هذا المقياس، ومن ينظر إليه هكذا يحسبه حقاً، لكننا إذا علمنا أن الأحكام الشرعية التي تعبد الله بها الخلق ليس فيها ما يحتاج إليه بعض الناس وما يحتاج إليه كل الناس، بل هي جميعاً مما يُحْتَاج إليها ومما تعم بها البلوى، ولا يجوز إغفالها ولا التهاون فيها، كذلك نجد أكثر الأحكام قد وردت عن طريق خبر الآحاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلِّغ الناس جميعاً رسالة ربه وهو واحد، ويبعث رسله وجباته وهم آحاد، ويأتيه الوفد من قومهم فيعلمهم دينهم ويأمرهم بتبليغ من وراءهم وهم آحاد أيضاً، وإذن فالأمر الطبيعي أن تصلنا أكثر سنّته عن طريق الآحاد، وكل ما جاءنا عنه بطريق صحيح ليس لنا مخالفته لأنه آحاد بل يجب علينا الالتزام به والوقوف عنده وعدم رده أو الحكم عليه بعدم الصحة لتلك الشبهة، هذا ما انتهينا إليه من نتائج هامة في هذا البحث.

وبعد/ فإنني أرجو أن أكون قد قدمت بهذا العمل إجابة شافية عن ذلك السؤال الذي طرحه بعض الأخوة وأنا أُفكر في موضوع لرسالة الدكتوراه، وهو: هل هناك مقاييس لنقد متون السنّة غير تلك الموجهة إلى الأسانيد؟، وعلم الله أنني بذلت قصارى جهدي في هذا البحث، وإن كنت قد أصبت فهذا هدفي وأملي وإن كنت قد أخطأت فالله أسأل أن يغفر لي وأن يهديني إلى الصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015