غاية ما في الأمر أن هؤلاء القائلين بمنهج المتقدمين لم يفهموا كلام المتأخرين ولم يستوعبوه، ورأوا أن طلب كلام المتقدمين أولى، مع ما فيه من تعدد الألفاظ وتنوع المصطلحات، وخصوصية المحل غالبا، فليست أحكامهم عامة إلا في القليل النادر، فلما استحكمت الحلقات على هؤلاء قالوا بهذا المنهج، فلا لكلام المتأخرين فهموا، ولا بكلام المتقدمين أخذوا.
2 - ارتبط ظهور هذه الدعوى بالهجوم على الألباني رحمه الله على الأقل من بعضهم، مما يشعر بأن سمة هذه الدعوى أنها ردة فعل.
3 - أن علماء الحديث المعاصرين لم يتبنوا هذا المنهج، فالشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ حماد الأنصاري والشيخ الألباني والشيخ ربيع – رحمهم الله – وهم من كبار أهل الحديث لم يتبنوا هذا المسلك، بل وقفوا ضده، وحذروا منه.
4 - ضبابية الرؤية لدى القائلين به، وذلك يظهر في جوانب منها:
أ- في بيان حد (المتقدمين) و (المتأخرين)، ففي أول الأمر جاء في عباراتهم ما يشعر أنهم يحدون ذلك بالزمن، ثم تطور الأمر فصاروا يحدون ذلك بطريقة التصنيف والاعتماد فيها على الأسانيد والرواية، ثم تطور بهم الحال، فجاء في عباراتهم ما يشعر بأنهم يفرقون بين المتقدمين والمتأخرين بمنهج التعليل، فمن جرى في كلامه إيراد العلل والطرق وإيراد كلام المتقدمين فهو من المتقدمين، ومن لا فلا! ثم استقروا أخيرا على أن المتقدمين هم أهل الحديث الذين لم يوصفوا بالتساهل، والمتأخرين هم من كان على طريقة الفقهاء والأصوليين والمتساهلين من أهل الحديث منهم.
ب- ضبابية الرؤية عندهم في تحديد طريقة أهل الحديث، فهم تارة يجعلون أهل الحديث مقابلاً للفقهاء والأصوليين، وتارة يخرجون المتساهلين والمتشددين من أهل الحديث!
ج- ومن ذلك أنك تراهم يبيحون لأنفسهم ما يمنعون غيرهم منه، فلهم الحق في التقعيد على كلام المتقدمين وفهمه، وغيرهم لا حق له، وما يقررونه هو الصواب الذي لا معدل عنه، وكلام غيرهم لا التفات إليه، حتى لو كان هذا الغير من العلماء الكبار، كابن الصلاح ومن جاء بعده إلى ابن حجر وإلى يومنا هذا، رحم الله الجميع!
د- لم يتحرر لدي موقفهم من كلام أئمة الحديث إذا اختلفوا في الحكم على الرجل أو الحديث، ماذا يصنعون؟ هل يقبلونه على تعارضه، أم يردونه؟ وإذا رجحوا فعلى أي أساس؟ وهل كلام الأئمة عندهم من الأخبار التي يجب قبولها؟ أو هي من الاجتهاد الذي ينظر فيه؟ أو بعضه كذا وبعضه كذا؟
هـ- أن الدعوة إلى المتقدمين والمتأخرين على هذا المسلك (مسلك الدفع والمفاصلة)، وبخاصة الاتجاه الأول منه يترتب عليها ويستلزم منها أمور باطلة؛ من ذلك:
- أن في هذه المقالة خروج عن سبيل المؤمنين الذي سلكوه من زمن ابن الصلاح إلى يومنا هذا.
- ومنها: أن في هذه المقالة: مخالفة الحديث الوارد في أن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
- ومنها: أن في هذه المقالة منابذة للعلم والعلماء في شتى الفنون، وخاصة علوم الشريعة، بل وإساءة الظن بهم – رحمهم الله -.
- ومنها: أن محصلة هذه الدعوى أنها تحصيل حاصل.
- ومنها: أن تأخذ في بعض أوضاعها موقف التقليد المتعصب المذموم، لا الجائز.
- ومنها: أن في هذه الدعوى ما يؤدي إلى رفع منار أهل البدعة والضلالة.
- ومنها: أن فيها هدم للحديث، بل وللدين!؛لأن معنى هذا أن جميع الأحكام على الأحاديث تصحيحا وتضعيفاً التي بنيت على تقعيد ابن الصلاح ومن بعده بحاجة إلى إعادة نظر، فانظر هل يبقى من أحكام الشرع بعد هذا شيء مستقر في مكانه؟!
والذي يظهر لي أن حل المشكلة بما عليه المسلك الثاني هو المتفق مع قواعد العلم المتقررة عند العلماء، إذ حقيقة الحال: أن العلماء استوعبوا كلام المتقدمين في مسائل علم الحديث، وفهموه ودرسوه وقعدوا هذه القواعد لتقريب العلم، وتسهيل السبيل أمام الطالب ليرقى فيه، ولا ضير عليهم إذا جاء هؤلاء ولم يفهموهم، ولم يحسنوا الظن بهم!!