أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم:
يقول عبد القاهر البغدادي -وهو يذكر ما أجمع عليه أهل السنة وهم- عنده -الأشاعرة-: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها ... وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها، وكذلك السماء متناهية الأقطار من الجهات الست) (?) وزعم أنه يرد بذلك على الفلاسفة والدهرية.
فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل فضلاً عن الإجماع، بل هو -في زماننا هذا- أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل، ولا شرع) (?).
النتيجة التاسعة عشرة: قيام المدنية وازدهار الحضارات:
اعتقاد منع التعارض بين النقل والعقل يفيد في عمران الحياة، وازدهار الحضارات؛ فتنعم البشر بهدي الله وشرعه، ولأهل السنة اليد الطولى والقدح المعلّى في تقدم المعارف العقلية، والعلوم التطبيقية، إذ لا هناك ما يحجزهم دونها، كما حدث في الدولة المسيحية في عصور الظلام، حين انقدح عندهم التعارض بين نصوص الإنجيل ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم التطبيقية والمعارف العقلية إلى أشد أنواع التنكيل من قبل الكنيسة كان الانعتاق من سلطانها، وبداية ظهور الاتجاه العلماني.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم (بذلك) (?) متمتعين .. ) (?).
النتيجة العشرون: توحيد الصفوف وجمع الكلمة:
إن الالتزام بهذا المنهج يوحد بين صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم؛ على تنوع اهتماماتهم العلمية والعملية، وتفاضل مقاديرهم في العلم والإيمان، ولا يعني هذا الاتفاق في جميع تفاصيل المسائل ودقائقها، ولكن اتفاق في الطريق والمنهج الموصل إلى الحق، فإن وجد اختلافٌ بعد ذلك لم يفسد للود قضية، بل يندفع بالتناصح والتشاور، وتذوب حدته في بحر الألفة والمودة:
قال أبو القاسم الأصبهاني (رحمه الله) (?): (السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطرق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلَّما تختلف، وإن (اختلفت) (?) في لفظٍ أو كلمةٍ فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما ذكر دلائل العقل (?) فقلَّما تتفق، بل عقل كل واحدٍ يرى صاحبه غير ما يرى الآخر ...
وبهذا تظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول؛ فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم اختلفوا في أحكام الدين، ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعاً؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم، فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة ... فكانوا مع الاختلاف أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، فلم ينقطع عنهم نظام الإلفة ... فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاً ولا تفرقاً، وبقيت بينهم الإلفة والنصيحة والود والرحمة والشفقة ... ).
ولهذا قيل الاختلاف مع التعادي والتفرق عادة أهل الكلام، والاختلاف مع التوالي والتصويب عادة السلف وأصحاب الحديث (?).
وقال قتادة رحمه الله: (لو كان أمر الخوارج هدىً لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق) (?).
وقال ابن قتيبة رحمه الله: (لو أردنا -رحمك الله- أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف ... ) (?).