أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفُتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأمة ... ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعةٍ -عليها طائفةٌ كبيرة- من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث: ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يُقبل بحال.
وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة ... ) (?).
النتيجة السابعة عشر: الشك والحيرة والضياع مصير المخالف:
مخالفة هذا المنهج أورثت المخالفين شكاً وحيرةً وضياعاً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب (كشف الأسرار في المنطق)، وهو عند كثير منهم غايةً في هذا الفن. أنه قال عند الموت: أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف عدمي. أموت وما علمت شيئاً) (?).
وقال رحمه الله: (حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: أبيت بالليل، وأستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) (?).
وقال آخر: (بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليلٍ على التوحيد سالمٌ عن المعارض فما وجدته) (?).
وهذا الفخر الرازي يقول (?):
(نهاية إقدام العقول عقال وأكثرُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا)
وهذا الشهرستاني يصف حال المتكلمين في قوله (?):
(ولقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم)
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي المتشيع يصف حاله وحال إخوانه من المتكلمين (?):
(فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقض عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفرِ
فلحي الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظرِ
كذبوا إن الذي ذكروا خارجٌ عن قُوة البشر)
قال ابن تيمية: (ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (الذاريات: 8، 9): يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، ويُطافُ بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.