كِتَابُ رِيَاضَةِ النَّفْسِ
وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَمُعَالَجَةِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَرَّفَ الْأُمُورَ بِتَدْبِيرِهِ، وَزَيَّنَ صُورَةَ الْإِنْسَانِ بِحُسْنِ تَقْوِيمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَفَوَّضَ تَحْسِينَ الْأَخْلَاقِ إِلَى اجْتِهَادِ الْعَبْدِ وَتَشْمِيرِهِ، وَاسْتَحَثَّهُ عَلَى تَهْذِيبِهَا بِتَخْوِيفِهِ وَتَحْذِيرِهِ، وَسَهَّلَ عَلَى خَوَاصِّ عِبَادِهِ تَهْذِيبَ الْأَخْلَاقِ بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَنَبِيِّهِ وَبَشِيرِهِ وَنَذِيرِهِ، الَّذِي كَانَ تَلُوحُ أَنْوَارُ النُّبُوَّةِ مِنْ بَيْنِ أَسَارِيرِهِ، وَيُسْتَنْشَقُ حَقِيقَةُ الْحَقِّ مِنْ مَخَايِلِهِ وَتَبَاشِيرِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ حَسَمُوا مَادَّةَ الْبَاطِلِ فَلَمْ يَتَدَنَّسُوا بِقَلِيلِهِ وَلَا بِكَثِيرِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَالْخُلُقُ الْحَسَنُ صِفَةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَفْضَلُ أَعْمَالِ الصِّدِّيقِينَ، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ شَطْرُ الدِّينِ، وَثَمَرَةُ مُجَاهَدَةِ الْمُتَّقِينَ، وَرِيَاضَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ. وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ هِيَ السُّمُومُ الْقَاتِلَةُ، وَالْمَخَازِي الْفَاضِحَةُ، وَالرَّذَائِلُ الْوَاضِحَةُ، وَالْخَبَائِثُ الْمُبْعِدَةُ عَنْ جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمُنْخَرِطَةُ بِصَاحِبِهَا فِي سِلْكِ الشَّيَاطِينِ، وَهِيَ الْأَبْوَابُ الْمَفْتُوحَةُ إِلَى نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ هِيَ الْأَبْوَابُ الْمَفْتُوحَةُ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى نَعِيمِ الْجِنَانِ، وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ. وَالْأَخْلَاقُ الْخَبِيثَةُ أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ وَأَسْقَامُ النُّفُوسِ، إِلَّا أَنَّهُ مَرَضٌ يُفَوِّتُ حَيَاةَ الْأَبَدِ، وَأَيْنَ مِنْهُ الْمَرَضُ الَّذِي لَا يُفَوِّتُ إِلَّا حَيَاةَ الْجَسَدِ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ عِنَايَةُ الْأَطِبَّاءِ بِضَبْطِ قَوَانِينِ الْعِلَاجِ لِلْأَبْدَانِ وَلَيْسَ فِي مَرَضِهَا إِلَّا فَوْتُ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ، فَالْعِنَايَةُ بِضَبْطِ قَوَانِينِ الْعِلَاجِ لِأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ فِي مَرَضِهَا وَفَوْتِ حَيَاةٍ بَاقِيَةٍ أَوْلَى، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الطِّبِّ وَاجِبٌ تَعَلُّمُهُ عَلَى كُلِّ ذِي لُبٍّ، إِذْ لَا يَخْلُو قَلْبٌ مِنَ الْقُلُوبِ عَنْ أَسْقَامٍ لَوْ أُهْمِلَتْ تَرَاكَمَتْ وَتَرَادَفَتِ الْعِلَلُ وَتَظَاهَرَتْ، فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَى تَأَنُّقٍ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا، ثُمَّ إِلَى تَشْمِيرٍ فِي عِلَاجِهَا وَإِصْلَاحِهَا، فَمُعَالَجَتُهَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشَّمْسِ: 9] وَإِهْمَالُهَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشَّمْسِ: 10] وَنَحْنُ نُشِيرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَى جُمَلٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَكَيْفِيَّةِ الْقَوْلِ فِي مُعَالَجَتِهَا بِعَوْنِهِ تَعَالَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُثْنِيًا عَلَيْهِ وَمُظْهِرًا نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [الْقَلَمِ: 4] وَقَالَتْ " عائشة " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُلُقُهُ الْقُرْآنُ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا