ولو مر رجل بأرض قفر لا بناء فيها ثم مر بها فرأى فيها بنيانًا وقصورًا وعمارات محكمة لم يخالجه شك ولا ريب أن صانعًا صنعها وبانيًا بناها. ثم قال: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطُّور: 35] وهذا أيضًا من المستحيل أن يكون العبد موجدًا خالقًا لنفسه، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة، ولا أصبعًا واحدًا، ولا ظفرًا، ولا شعرة، كيف يكون خالقًا لنفسه في حال عدمه؟ وإذا بطل القسمان تعين أن لهم خالقًا خلقهم وفاطرًا فطرهم. ثم قال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطُّور: 36] وبين بهذا القسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخلقوا فهم عاجزون غير خالقين، وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض، فهو المتفرد بخلق المسكن والساكن، بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه، فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر، فكيف يشركون به إلهًا غيره وهو وحده الخالق لهم؟ {بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطُّور: 36] فعدم إيقانهم هو الذي يحملهم على الشرك به في العبادة.
وهذا إبراهيم - عليه السلام - استدل «بأفعال الرب» حين حاجه النمرود، الكافر الجحود، إذ قال لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ قال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال نمرود:
{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ الرجلين قد استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه فأكون قد أحييته،
أوهم الحاضرين أنه يفعل مثل ما يفعله الله فيكون ربًا.