وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى عليه صلاة تبلغ أقطار الأرض والسماء، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله «الرياح» من أعظم آيات الله الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته. وفيها من العبر: هبوبها، وسكونها، ولينها، وشدتها، واختلاف طبائعها، وصفاتها، ومهابها، وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها؛ ولهذا أقسم الله سبحانه بها في قوله {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذّاريَات: 1] وهي الرياح: تذروا المطر، وتذروا التراب، وتذروا النبات إذا تهشم, ثم بما فوقها وهو السحاب {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذّاريَات: 2] أي ثقلاً من الماء يسوقها الله سبحانه على متون الرياح، فالقسم بها دليل على أنها من أعظم آياته.
هذا «الهواء» اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك جسمه بحس اللمس عند هبوبه ولا يرى شخصه، يجري بين السماء والأرض، والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر, فإذا شاء الله سبحانه حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء، ورحمةً، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب (?) . وإن شاء حركه بحركة عذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من شاء من عباده، فجعله صرصرًا، ونحسًا وعاتيًا ومفسدًا لما يمر به ومسببًا للفيضان المدمر.