قال البغوي: هذا الحديث يجب على الرء السلم الإيمان به على ما جاء به من غير أن يعتبره بما جري عليه عرف البشر، فيقع في الارتياب، لأنه أمر مصدره عن قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه، وهو مجادلة بين ملك كريم ونبي كليم، كل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر، ومجاري عاداتهم في المعني الذي خص به، فلا يعتبر حالهما بحال غيرهما، وقد اصطفي الله سبحانه وتعالي موسى برسالاته وبكلامه، وأيده بالآيات الظاهرة، والمعجزات الباهرة، كاليد البيضاء، والعصا، وانفلاق البحر، وغيرها مما نطق به القرآن، ودلت عليه الآثار، وكل ذلك إكرام من الله - عز وجل - أكرمه به، فلما دنت وفاته وهو بشر يكره الموت طبعًا، ويجد ألمه حسا، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه به قهرا، لكن أرسله له منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه، واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعًا عن نفسه بما كان من صكه إياه، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها دون صورة الملكية التي هو مجبول عليها، وقد كان في طبع موسى - صلى الله عليه وسلم - حمية وحِدَّة على ما قص الله علينا من أمره في كتابه من وكزه القبطي، وإلقائه الألواح، وأخذه برأس أخيه يجره إليه .. وقد جرت سنة الدين بدفع من قصدك بسوء، كما جاء في الحديث "مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ" (?)، فلما نظر موسى إلى شخص في صورة بشر، هجم عليه يريد نفسه، ويقصد هلاكه، وهو لا يثبته، ولا يعرفه أنه رسول ربه دفعه عن نفسه، فكان فيه ذهاب عينه، فلما عاد الملك إلي ربه، رد الله إليه عينه، وأعاده رسولًا إليه ليعلم نبي الله - عليه السلام - إذا رأي صحة عينيه المفقوءة أنه رسول الله بعثه ليقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره، وطاب نفسًا بقضائه، وكل ذلك رفق من الله عز وجل، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه، والانقياد لمورد قضائه (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015