الثالث: ما روي عن عائشة قالت: "جمع أبي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب ... فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك"، زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما خفي على أبي بكر (?).
أقول: لو صح هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر، وأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين، كما رأيت.
الرابع: ما روي عن عروة: "أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك -ورواية البيهقي: فاستشار- فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا، وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا- ورواية البيهقي: لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا" (?).
والجواب عليه من هذه الوجوه:
الوجه الأول: الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر.
الوجه الثاني: أن هذا -إن صح- فهو حجة لما قلناه، فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا؛ لما هم بها عمر ولما أشار عليه الصحابة بها، وأما عدوله عنها فلسبب آخر، كما رأيت.