والقول الثاني: أن الكناية في قوله: {لَهُ} راجعة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء، وقوّى ابن الأنباري هذا القول فقال: لما ذكر الله الإنزال، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه؛ فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمرًا معلومًا كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] فإنَّ هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره، وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل، والله أعلم.
المسألة الثالثة: إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ قال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر؛ فعجز الخلق عن الزيادة فيه، والنقصان عنه؛ لأنهم لو زادوا فيه، أو نقصوا عنه؛ لتغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن، فصار كونه معجزًا، كإحاطة السور بالمدينة؛ لأنه يحصنها ويحفظها. وقال آخرون: إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته. وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف. وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدًا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى، حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا، فهذا هو المراد من قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصونًا عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات.
وأيضًا أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظًا عن التغيير والتحريف، وانقضى الآن قريبًا من ستمائة سنة فكان هذا إخبارًا عن الغيب، فكان ذلك أيضًا معجزًا قاهرًا (?).