ويشهد حلم الله في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة.
ويعرف كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره.
ويشهد فضله في مغفرته ذنوبه، فإن المغفرة فضل من الله، وعفوه بفضله لا باستحقاق العبد له، فيوجب ذلك له شكراً لله، ومحبة له، وإنابة إليه، وفرحاً وابتهاجاً به، ومعرفة له باسمه الغفار.
وبذلك يكمل لعبده مراتب العبودية من التعظيم لمولاه، والذل له، والخضوع والانكسار بين يديه، وكمال الافتقار إليه.
والثاني: أن يقيم الله على عبده حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجته.
فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصد عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا عاقبه على ذنبه عاقبه بحجته على ظلمه.
فإذا أقدم العبد على سبب الهلاك، وقد عرف أنه سبب الهلاك فهلك، فالحجة مركبة عليه، والمؤاخذة لازمة له.
فإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب، علم أن الله سبحانه قدره سبباً مقتضياً لأثره من العقوبة، كما قدر الطاعة سبباً مقتضياً للثواب، وأن الله علم أن هذا العبد لا يصلح إلا للوقود كالشوك الذي لا يصلح إلا للنار.
فاقتضى عدله سبحانه أن يسوق هذا العبد إلى ما لا يصلح إلا له، وأن يقيم عليه حجة عدله، بأن قدر عليه الذنب فواقعه، فاستحق ما خلق له كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} [يس: 69،70].
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين ما لم يأمروا بمعصية فلا طاعة لهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
وقد أرسل الله رسله ليطاعوا كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64].
فالرسول والداعية ليس مجرد واعظ يلقي كلمته ويمضي، فالرسالة سلطان يحقق منهج الله في الأرض، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ في مجالات الحياة كلها.
ولم يرسل الله الرسل لمجرد التأثر الوجداني وأداء الشعائر التعبدية فقط، فهذا وهمٌ في الدين لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل، وتصريف الحياة وفق منهج الله جل جلاله.
ومن هنا كان الإسلام دعوة وبلاغاً .. ونظاماً وأحكاماً .. وخلافة على منهاج النبوة تنفذ أوامر الله في عباد الله، على أرض الله، على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا اشتغل الناس بمعصية الله ورسوله حرموا نصرة الله، وحرموا رضاه، ونزل بهم غضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
والمكلفون ثلاث فرق:
أهل الطاعة: وهم المنعم عليهم .. وأهل المعصية: وهم المغضوب عليهم .. وأهل الجهل: وهم الضالون.
فالطائفة الأولى: أهل الإيمان، وهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، فجمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير من أجل العمل به، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة المغضوب عليهم، وإن اختل قيد العلم فهم الجهلة الضالون، فاللهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6،7].
وإذا كان المقصود من الشجرة الثمرة والمنفعة، والشجرة إنما جاءت من