لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وعلمه، ولا تسكن إلا بإذنه وعلمه.
ويشهد أن قلوب العباد كلهم بيده، وأنه يقلبها بين أصبعين من أصابعه، ويصرفها كيف شاء، وأنه الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وألهم نفوس الفجار فجورها، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه، وهذا عدله وقضاؤه.
لا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فيشهد العبد هنا انفراد الرب بالخلق كله، ونفوذ مشيئته في ملكه، وتعلق الموجودات بأسرها به، وجريان حكمه على خلقه بما سبق به علمه، وجرى به قلمه.
ويشهد مع ذلك أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاء بالأعمال، فشهود توحيد الرب، وانفراده بالخلق، ونفوذ مشيئته، وجريان قضائه وقدره، يفتح للعبد باب التوكل عليه، ودوام الالتجاء إليه، والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
وشهوده أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع، والقيام بالأمر، والرجوع إلى نفسه باللوم، والاعتراف بالتقصير.
فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة، والقدرة الكاملة، والعلم السابق، والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه، ومعرفة عيوب نفسه وأعماله.
فهذا هو العبد الموفق المعان، الذي أقامه ربه مقام العبودية، وضمن له التوفيق، وحسن الثواب.
وهذا هو مشهد الأنبياء والرسل:
فهو مشهد أبيهم آدم - صلى الله عليه وسلم - حين قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
ومشهد أول الرسل نوح - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي