السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما يطلبون تعديلات وتنازلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، ولا ريب أن الانحراف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
والذي يقبل التسليم أول مرة لا يمكن أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد.
إن كل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 43، 44].
وأصحاب السلطان يستدرجون الدعاة، فإذا سلموا في جزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، ورفع السعر، ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو يسير من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها إنما هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الحق والدعوة، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فالله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، وفي جميع أمورهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، فما حاجتنا إلى غيره؟.
ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً، لذلك امتن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن ثبته على ما أوحي إليه، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير.
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض أي مكة، ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجراً، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة، ولو أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنوة