ولله الحجة البالغة الظاهرة البينة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقول ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، وكان ذلك كافياً ليؤمنوا بالله سبحانه، ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها الله لهم وهي العقل، اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يذكرونهم ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم، وتحرير عقولهم من غلبة الهوى، وركام الشهوات التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى، وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق كما قال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 2].
فالله رؤوف بالعباد، اقتضت رحمته بالناس أن لا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها، فقد تضل هذه الفطر بسبب البيئة.
وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك، فالعقل قد يضل وينهزم تحت ضغط الشهوات.
وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات بينات، فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها أو بعضها في كيان الإنسان.
لقد ناط الله تبارك وتعالى بالرسل والأنبياء مهمة استنقاذ الفطر مما ران عليها من ركام الشهوات، واستنقاذ العقول من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس.
وجعل سبحانه العذاب مرهوناً بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله عليه، كذلك هي