وقد ضمن أعضاء الجماعة اليهودية بقاءهم داخل التشكيلين الحضاريين الإسلامي والمسيحي لاضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، وهو دور يتطلب عزلة أعضاء هذه الجماعة وبقاءهم بشخصيتهم المستقلة، وذلك حتى يمكنهم القيام بوظيفتهم هذه على أكمل وجه تحت حماية الطبقات الحاكمة التي تستخدمهم كأداة. وهناك أمثلة كثيرة على أقليات دينية إثنية أخرى تمتعت بما يُسمَّى «معجزة البقاء» هذه عبر عدة قرون، دون أن تنصهر في محيطها الثقافي، وذلك لقيامها بنشاط اقتصادي واجتماعي محدَّد كما تفعل الجماعات الصينية في جنوب شرقي آسيا.

ومما ساعد على بقاء اليهود أن قوى المركزية وكذلك التوحيد الإداري لم تكن قوية لا في العالم المسيحي الغربي ولا في العالم الإسلامي، كما هو الحال في معظم المجتمعات التقليدية، الأمر الذي خلق المجال لوجود جيوب إثنية ولبقائها واستمرارها. كما أن العقائد الدينية السائدة في المجتمعات المسيحية سمحت ببقاء اليهود، بوصفهم الشعب الشاهد الذي يقف شاهداً على عظمة الكنيسة وصدق العقيدة المسيحية. ولذا، كانت الكنيسة الكاثوليكية تحمي بقاءهم وتدافع عنهم. أما في المجتمعات الإسلامية فقد صُنِّف اليهود باعتبارهم من أهل الكتاب في الإسلام، حيث حُدِّدت حقوقهم وواجباتهم منذ البداية، وأصبح من واجب الدولة الإسلامية حمايتهم. وقد حقق أعضاء الجماعات في العصر الحديث بقاءهم بالطريقة نفسها تقريباً، إذ أحرزوا البقاء بأن أصبحوا جزءاً من التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي. ويحقق يهود جنوب أفريقيا بقاءهم بالعيش في سلام في كنف الجيب السكاني الأبيض، ولن يزولوا أبداً إلا بزواله. كما أن أعداداً كبيرة منهم تُحقّق البقاء في أمريكا اللاتينية بالابتعاد عن الحركات اليسارية والقومية، وبالتعاون مع النظم الشمولية. وقد حققوا قدراً كبيراً من البقاء في أمريكا الشمالية بتَقبُّل مُثُل المجتمع والتعامل مع الواقع من خلالها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015